لغز تعريف العداء للسامية

تنزيل (4).jfif
حجم الخط

بقلم مهند عبد الحميد

 

 

 


نشر صحافي إيراني على موقعه صورة لجدار الفصل العنصري الإسرائيلي في مدينة بيت لحم منوها بنظام «الأبارتهايد» الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. لم يمر هذا الحدث دون عقاب فقد صدرت بحق الشاب تهمة العداء للسامية وغرامة مالية بقيمة 30 ألف يورو. تتكرر مثل هذه العقوبات بحق أفراد ومؤسسات في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وأميركا، وذلك على خلفية تعريف العداء للسامية من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى «الهولوكوست». ذلك التعريف حوّل كل نقد للانتهاكات الإسرائيلية من الأوزان الثقيلة والخفيفة، وكل تضامن مع الشعب الفلسطيني إلى تهمة العداء للسامية التي يعاقب مرتكبوها دون هوادة.
وكما جاء في بيان الائتلاف المكون من 60 منظمة حقوقية – وأصبح يضم، الآن، 104 منظمات حقوقية: يستخدم تعريف التحالف كأداة غليظة لتصنيف أي شخص بأنه معاد للسامية. فالبنود الـ 11 من التعريف تشير 7 منها إلى دولة إسرائيل. على سبيل المثال، فإن القول بدولة «أبارتهايد» يعني «حرمان الشعب اليهودي من حقه في تقرير مصيره». وهذا يتحول إلى موقف معاد للسامية وعندما يقال، إن سياسات الحكومة الإسرائيلية وممارساتها تنتهك الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري، يعتبر هذا التقييم أيضا معاديا للسامية.
أخطر ما في التعريف وتطبيقاته هو المس بتقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية وفي مقدمتها «أمنستي» و»هيومن رايتس ووتش» ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات ومجلس حقوق الإنسان، فضلا عن المنظمات الحقوقية الإسرائيلية، والفلسطينية. فوفقا لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى «الهولوكوست» تعتبر تقارير المنظمات معادية للسامية، ومستبعدة من أي تفعيل إيجابي ضد الانتهاكات، ويمنح التعريف دولة الاحتلال حق ازدراء تلك التقارير فضلا عن الإفلات من العقاب. وقد يجد طلبة وأساتذة جامعات ومنظمات حقوق الإنسان والحقوق المدنية ووكالات ولجان ومؤتمرات وأعضاء كونغرس وعاملون في الأمم المتحدة، انهم جميعا متهمون بمعاداة السامية. وقد يجد كل هؤلاء انهم غير قادرين على ممارسة حقوقهم الأساسية بما في ذلك حقهم في التعبير والنقد والتضامن مع شعوب وجماعات.
في المرحلة السابقة، اكتفى حلفاء وأصدقاء دولة الاحتلال في تأمين الحماية للمحتلين وفي إفلاتهم من العقاب بمنع تطبيق القرارات وبقائها حبرا على ورق أو داخل الأدراج. الآن، يحاولون توفير غطاء قانوني صريح للانتهاكات بالانتقال إلى الهجوم على القوى والمنظمات الملتزمة بالقانون الدولي وبميثاق الأمم المتحدة، وعلى المدافعين عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، بل وبمعاقبة المدافعين عن القانون وإزالتهم كعقبة أمام استباحة دولة «الأبارتهايد» للشعب الفلسطيني. وكل ذلك عبر تعريف التحالف الدولي العداء للسامية. ولا شك في أن اعتماد الجمعية العامة لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى «الهولوكوست»، يشكل انقلابا سافرا على الشرعية والقانون الدولي، وهو انقلاب يترافق مع صعود معسكر اليمين القومي الديني بنسخته الكهانية للحكم في إسرائيل، ذلك المعسكر الذي دعا أحد رموزه إلى محو قرى فلسطينية، وأعلن آخر إلى تحويل السجون إلى معسكرات لا تليق بالآدميين، المعسكر الذي يدعو أو يشجع التطهير العرقي في الأغوار ومسافر يطا والقدس، ويشجع فتيان التلال على سرقة الأرض والمحاصيل والاعتداء على المواطنين الفلسطينيين وقتلهم.  
إعادة التعريف بـ»الهولوكوست» بما هي شكل من أشكال الإبادة الجماعية لـ 6 مليون يهودي أولا والمستهدفين الآخرين 5 مليون ثانيا، ومعرفة أسبابها ونتائجها وتداعياتها واستخلاص الدروس منها، من المهمات الكبرى التي يفترض أن تكون أولوية، وبخاصة للشعوب التي تعاني من الاضطهاد والقهر والقمع والإقصاء. كان الهدف الجوهري من وراء إحياء ذكرى «الهولوكوست» هو عدم تكرارها كليا أو جزئيا. ومن أحوج من الشعب الفلسطيني لدراسة الكارثة التي أحلت باليهود وبالبشرية من أجل تفادي حدوث أشكال ومستويات شبيهة بها. ومن أجل تكريس التضامن مع كل الضحايا بلا استثناء. تقول تجربة «الهولوكوست»، إن فصلها الأخير – المحرقة – جاء امتدادا لثقافة العداء للسامية وما تضمنته من تحريض وكراهية في أوروبا وروسيا وأميركا. وجاءت امتدادا لقوانين التمييز والفصل العنصري الأميركية، لا سيما قوانين حظر الزواج بين الأعراق. ثقافة الكراهية والعداء للسامية لم تأت من فراغ، كانت موجودة وبلغت أوجها في المرحلة النازية وهي مستمرة إلى يومنا هذا. يقول تقرير للأمم المتحدة، إن 50% من المشاركات على منصة تليغرام تنكر المحرقة. وان معاداة السامية الرقمية في مواقع الإنترنت وبخاصة موقع «ستة ملايين لم تكن كافية». وقد استمرت صناعة كوارث للشعوب – إبادة جماعية في رواندا – وتستمر معاناة الشعب الفلسطيني، فيخضع لمنظومة قوانين عنصرية أخطرها قانون القومية، ويؤدي استمرارها وتطبيقها إلى صناعة نكبة جديدة. كما يتعرض لعنف منظم كهدم منازل ومصادرة أراض بالجملة واعتقال وقتل وحصار وتغلغل استيطاني إحلالي، ولممارسة تطهير عرقي زاحف في القدس والخليل والأغوار، وبناء جدران العزل العنصري ووضع التجمعات البشرية في معازل محاصرة وتحت سيطرة أمنية محكمة. كما يتعرض الشعب الفلسطيني لخطاب كراهية مركزه إقصاء سياسي يعتبر الحل والتسوية السياسية معدومين، ويعتبر أن الوجود الفلسطيني يمثل تهديدا، لذا يتم منع تطور تشكيلة اقتصادية اجتماعية للمجتمع الفلسطيني تفتح له أبواب التطور. ويتم تحميل الضحية المسؤولية عن الاضطهاد والإخفاق السياسي وعدم الاستقرار في المنطقة.
إن أي تدقيق موضوعي ومحايد في فصول «الهولوكوست» من خلال الرواية الإسرائيلية – موسوعة «الهولوكوست» – الوقائع الاختصاصية، يجد المدقق عناصر مشتركة مع الحالة الفلسطينية تختلف في النوع وفي المآلات لكنها قابلة للتدهور وصولا إلى نكبة جديدة وتهجير جديد.  
دراسة «الهولوكوست» واستخلاص دروسها وإعلان الحرب على ثقافة العداء للسامية، يعني رفع وإلغاء كل تقاطع وتماثل مع عناصرها، يعني معاقبة المرتكبين ومنعهم من المضي قدما في ارتكاب الجرائم والانتهاكات ودعم ومساندة الضحايا، ومعاقبة المرتكبين والمنتهكين للقانون الدولي والمتهمين بارتكاب جرائم حرب. ولا يعني بأي حال من الأحوال مساعدتهم على الإفلات من العقاب ومكافأتهم وتأمين الغطاء السياسي لهم.
ما يحدث، الآن، انقلاب على ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. ما يحدث إعلان الحرب على الضحايا الجدد والتهاون مع المعادين للسامية وأحزابهم ومنظماتهم ومؤسساتهم، والتهادن مع اليمين القومي والديني الإسرائيلي والعالمي على حد سواء.