التعليم في القدس، الأسرلة الزاحفة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

 

"التعليم في القدس الشرقية، الأسرلة الزاحفة"، كتاب جديد للباحثة "مرام مصاروة"، إصدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، 2022. يقع الكتاب في 198 صفحة، ويتكون من سبعة فصول وخاتمة للمناقشة، وقائمة بالمصادر.
تنبع أهمية الكتاب من كونه يزودنا بالمفاتيح اللازمة لفهم واقع التعليم في القدس الشرقية، لنكتشف كم هو واقع معقد ومتشابك وغامض خاصة لمن هم خارج القدس، ولأنه يلقي الضوء على خطورة النهج الإسرائيلي الدؤوب والهادف إلى أسرلة التعليم في المدارس الفلسطينية بالقدس الشرقية، وهو نهج صامت وصاخب في آن معاً، تسعى إسرائيل لقطف ثماره على المدى البعيد، من خلال إعادة تشكيل العقل العربي على النحو الذي يحقق "تدجينه" و"تطويعه" وصولاً إلى خلق جيل مقدسي مغترب عن قضيته الوطنية، ومنفصل عن واقعه الفلسطيني. فالقهر الاستعماري الصهيوني للفلسطينيين (خاصة في القدس) يتمثل في سعي إسرائيل الدؤوب لاستبدال اللغة والثقافة والتاريخ والتربية الفلسطينية بالإسرائيلية، وصراعها على المنهاج. وعندما تكون إسرائيل غير مهتمة بتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية للسكان الأصليين مثل الاندماج والمساواة بعدالة، ستستند إلى أسلوب القهر والسيطرة، وفرض القوانين العنصرية، والسياسات التربوية الهادفة إلى تمرير الرواية الصهيونية وترسيخها في أذهان المقدسيين، وطمس الرواية الفلسطينية، لإنتاج أجيال تدين بالولاء لإسرائيل وتقبل احتلالها لهم، من خلال هندسة الوعي الجمعي.
ومع إيماننا الراسخ بعمق وحيوية الروح الوطنية الفلسطينية لأهلنا في القدس، واعتقادنا الجازم بأن مشاريع الأسرلة والتدجين باءت بالفشل (كما أفشلها أهلنا داخل الخط الأخضر)، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية خطورة المسعى الإسرائيلي، ومن ضرورة التعرف عليه ودراسته لوضع الأسس الصحيحة للتصدي له، وإفشاله فعلياً.
وفيما يتعلق بواقع التعليم وتحدياته، تشير الكاتبة إلى العوائق الإسرائيلية المتمثلة بوجود جدار الضم والفصل العنصري، والذي أثّر على فئة الشباب ودفعهم لتكوين هوية فلسطينية متمايزة في ظل الاحتلال، وأيضاً الحواجز التي تفصل القرى المحيطة عن قلب المدينة والتي تعيق وصول الطلبة والمعلمين إلى مدارسهم، إضافة إلى النقص في عدد المدارس والغرف الصفية، ومنع عمليات الترميم والتجديد والتوسعة، وافتقار المدارس للمرافق المهمة كالملاعب والمختبرات والساحات.
ونتيجة لواقع التعليم الصعب والبائس في مدارس القدس، تزايدت نسبة التسرب من المدارس والتي وصلت إلى حدود الـ 50% بين طلبة المدينة، وبسبب المضايقات الاحتلالية توجهت أعداد كبيرة من الطلبة إلى سوق العمل لمساعدة أهاليهم.
وقد خصصت وزارة المعارف الإسرائيلية منذ العام 1985 قسماً للإشراف على التعليم في القدس الشرقية، وهي "إدارة التربية والتعليم في القدس" واختصارها (مانحي)، كنموذج للتخطيط المشترك بين بلدية القدس ومكتب حكومي يضم مفتشي التعليم الإسرائيليين لفرض الأجندات الاحتلالية.  
قبل ذلك، أي بين عامَي النكبة والنكسة كانت القدس تتبع للأردن، ومدارسها موزعة بين المدارس الحكومية ومدارس "الأونروا"، وتدرس المنهاج الأردني، وبعد ضم القدس فرض الاحتلال سيطرته ومناهجه على مدارسها، وفي العام 1994 بعد قيام السلطة الوطنية تسلمت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية مسؤولية التعليم في كافة جوانبه ومراحله في الضفة والقطاع (باستثناء القدس)، حيث استلمت فقط مسؤولية مدارس الأوقاف، وبناء عليه صار نظام التعليم في القدس موزعاً على أربعة قطاعات، الأول: مدارس الأوقاف وتتبع السلطة الوطنية، والثاني: مدارس القطاع الخاص (98 مدرسة)، والثالث: مدارس وكالة الغوث (6 مدارس)، وجميعها تعتمد المنهاج الفلسطيني. ويبلغ عدد طلبة القدس (من الابتدائي حتى الثانوي) نحو مائة ألف طالب، 45 ألف منهم يدرسون في 146 مدرسة تتبع المظلة الفلسطينية، والباقي في مدارس تتبع حكومة الاحتلال.
القطاع الرابع: المدارس التابعة لوزارة المعارف وبلدية القدس (مانحي)، وهذه المدارس تعاني أيضاً من الاكتظاظ وضعف البنية التحتية وتفتقر للمرافق الضرورية، وتعمل "مانحي" على تحريف المنهاج الفلسطيني المعتمد في هذه المدارس، وتضيف إليه "التاريخ الإسرائيلي"، واللغة العبرية، والمعلمون في هذه المدارس يتلقون أجوراً أقل بكثير من نظرائهم في المدارس الإسرائيلية.
ومنذ احتلال الضفة الغربية والقطاع، ظلت وزارة المعارف الإسرائيلية تنظر بريبة للمعلم الفلسطيني، فقد صرح أول وزير للتربية "زلمان شزار" بأنه "من الضروري مراقبة المعلمين العرب، لمنعهم من جلب الأرواح الشريرة للمدارس العربية". وقد عكس تصريحه الفكر الصهيوني الذي سيّر العملية التعليمية طوال سنوات الاحتلال، فقد ظل المعلم الفلسطيني تحت الرقابة الشديدة في كل ما يقوله أمام التلاميذ، وأمامه قائمة طويلة من المحظورات التي يمنع الاقتراب منها، في كل ما يتعلق بالانتماء الوطني، وتحت طائلة الفصل من الوظيفة، وقد استمرت هذه العقلية الإسرائيلية تدير المدارس العربية في القدس، صحيح أن قائمة الممنوعات تقلصت كثيراً، إلا أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ما زالت تعتبر منظومة التعليم في الوسط العربي مسألة "أمن وطني"، عليهم السيطرة عليها، بما يحقق إعادة قولبة وتشكيل الهوية الفلسطينية وإخضاعها وفق المنظومة الإسرائيلية.
كما أقر الاحتلال "الخطة الخماسية"، بتشكيله لجنة تضم ممثلين عن بلدية القدس، والشرطة والمخابرات ومكتب رئيس الحكومة لبحث الوضع الأمني في القدس، جراء ارتفاع حالات إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة والمشاركة في المواجهات من قبل طلبة القدس، وبعد استشهاد الفتى محمد أبو خضير 2014، قررت اللجنة تفعيل برنامج تعليمي لا منهجي للطلبة بعد انتهاء الدوام المدرسي، بحيث ينشغلون في فعاليته ولا يتبق لهم وقت للمشاركة في المواجهات.
وعن مستقبل التعليم في القدس، تؤكد الباحثة أن التحدي الأكبر الذي يواجهه بالإضافة إلى التحدي السياسي هو الواقع الاقتصادي، فإذا استهدفت السياسات الإسرائيلية الهوية الوطنية للمقدسيين، فقد عمدت أيضاً إلى فصل الاقتصاد الفلسطيني في الضفة عن اقتصاد القدس، ما أدى إلى تشويه اقتصادها، وجعله معتمداً بالكامل على إسرائيل في التجارة والعمالة والسياحة وغيرها، خاصة التحاق الخريجين بسوق العمل، واشتراط إتقان العبرية والحصول على شهادة "البجروت".
وتنهي الفصل بعشرة مقترحات وتوصيات ليُسترشد بها عند وضع الإستراتيجيات الفلسطينية لإعادة الاعتبار للقدس ودعم سكانها فعلياً، وتثبيت صمودهم وتعزيز انتمائهم، وتغيير الواقع التعليمي لطلبتها، قبل أن يفترسهم غول الأسرلة الزاحف. بقي أن نقول: إن الكتاب إضافة نوعية، ودليل استرشادي مهم لكل من يهمه مصير القدس.