إحدى أهم المعضلات التي تواجه المثقف الحقيقي هي سؤال الحياد أو الالتزام والتناقض بين ضرورات الفكر وموجبات الحياة. لقد كان الاصطفاف تاريخياً جزءاً من الخيارات المطلوبة في لحظات معينة، وإن محاولة المثقف ومنتج المثقف أن يكون محايداً كانت عادة تلقي بظلالها على التفاعل مع إبداعه ومقدرة الآخرين على التواصل مع تلك الإبداعات، إذ إن جوهر الإبداع قائم على تقديم وجهة نظر، وجوهر الفن هو ما يقوله ضمن سياقات وخيارات جمالية وشكلية لا تكون عادة جوهر السؤال الفني. وهذا جدل مختلف وطويل ومعقد وربما يأخذنا إلى متاهات مختلفة. عموماً إن انحياز المثقف أمر يظل في العادة موضع جدل ولا يمكن تجاوزه في كل الأحوال.
كان سارتر يتحدث عن الالتزام في الفن، بمعنى أن الكاتب أو الفنان بشكل عام مطلوب منه أن يلتزم تجاه قضية ما. بالضرورة ثمة قضايا كثيرة تدور حول الفنان ويفرض بعضها شروطاً على حياته، ويبدو عدم اتخاذه موقفاً منها أمراً مستغرباً؛ ببساطة لأن الجميع يطلب منه أن يحدد موقفه، وأن يعبر عن هذا الموقف سواء في أعماله أو آرائه المعلنة، وعادة ما يتم احتساب هذه الآراء وجرها لتفسير الأعمال، وهذا أمر مفهوم ومتعارف عليه في النقد الفني والأدبي بشكل عام. ومعنى الالتزام ليس بالضرورة أن يكون موقفاً محدداً، لكنه يعني أن يكون ثمة موقف من قضية ما. وحين يلتزم الإنسان تجاه قضية ما، فإنه ينذر نفسه للدفاع عنها من خلال التعبير عن تفاصيلها أو تبريرها في منتجه الفني والأدبي. والكتاب والفنانون، وجميع منتجي الثقافة، كان دائماً لهم موقف واضح تجاه القضايا التي تحيط بهم، وبعضهم وقف بشكل صارخ من أجل القتال في سبيل قضية محددة، وبعضهم بالطبع دفع أثماناً كانت على حساب إبداعه وربما حياته. لأن الإنسان ببساطة لا يمكن له أن يعزل نفسه عن محيطه، ولا يمكن له أن يدير ظهره دائماً؛ لأن ثمة ريحاً ستعصف به في نهاية المطاف، ولأن متابعيه وجمهوره في نهاية الأمر سيطلبون منه موقفاً من باب أنه قدوة أو أنهم يحبونه، أو أنهم يريدون أن يعرفوا لمجرد المعرفة حتى يدركوا لمن يقرؤون أو يشاهدون. من هنا، فإن مواقف المشاهير، خاصة في السينما والكتابة، تأخذ أصداء كبيرة في الإعلام، ويتم تداولها بشكل واسع، وعادة ما يرددها المعجبون بطريقة تعبر عن الإعجاب والإطراء أو الاستهجان وعدم الاستحسان.
غسان كنفاني قال ذات يوم: إن الإنسان قضية. وحين يكون الإنسان قضية، فإن هذا يعني أن عليه أن يدافع عن قضيته، وأن يعبر عنها؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون محايداً حين يتعلق الأمر بمصيره. ومصير الإنسان مرتبط بردة فعله، لذا فإن ردة الفعل هذه تقرر الكثير من التصرفات التي سيقوم بها. وبالضرورة أن ينحاز الإنسان إلى قضيته. وفق غسان، إذا كان لا يمكن لك أن تموت قبل أن تكون نداً، فهذا يعني أن عليك أن تحمل قضيتك إلى آخر الطريق وتقاتل من أجلها، وألا تسمح لنفسك أن تقف على ناصية الصراع. كان غسان بالطبع يشير إلى القضية الفلسطينية، ووجوب أن يكون للفنان والكاتب الفلسطيني موقف مناهض للاستعمار ولمحاولته سرقة بلادنا فلسطين.. وبكلمة أخرى لا يمكن للفلسطيني بشكل عام أن يكون محايداً حين يتعلق الأمر بقضيته الوطنية. وبالنسبة لغسان، فإن هذا لا يعني أن الآخرين يمكن أن يكونوا محايدين تجاه قضية عادلة مثل قضية الشعب الفلسطيني، بل إن الجميع يجب أن يكون له موقف يعبر عن إرادة الإنسان في الانتصار للخير على حساب الظلم. فرانس فانون في «المعذبون في الأرض» أشار إلى هذه المواقف التي تجعل الإنسان ينحاز للمعذبين، وينحاز للخير مقابل قوة التدمير والقتل. هناك الكثير من الظلم في العالم، والمثقف الحقيقي بطبعه يجب أن يكون ضد الظلم والقهر واضطهاد الآخرين. ثمة حرية في داخل المبدع لا يمكن أن تسمح له أن يكون في الضفة الخطأ من نهر المواقف والأخلاق. القصة مع هذا ليست أخلاقية، بل هي في جوهر فهم الفنان لدوره في المجتمع، ولدور الإبداع كقوة تنوير في التاريخ البشري. دون هذا الفهم فإن الإبداع سيتحول إلى مجرد وسيلة تعبير مثل الكثير من وسائل التعبير في الحياة.
وإذ كان على الإنسان أن ينحاز، فعليه أن ينحاز أولاً وقبل كل شيء لقضية بلاده وشعبه. أيضاً الموضوع لا يتعلق في الكثير من المرات بالقناعات ولا بالنقاش الجماعي، ولا ذلك الذي يجري في الغرف المغلقة وحول طاولات النقاش في المقاهي. نعم، على الفنان أن يكون منحازاً حين يتعلق الأمر بقضية شعبه. لا يمكن لي مثلاً أن أختار أن أصطف أو لا أصطف مع أي قضية عربية. لا يوجد ترف في الاختيار، والأمر ليس وجهة نظر؛ لأن وجهة النظر إذا كانت في القضايا الوطنية أمراً محتماً فهي وجهة واحدة.. إنها الوجهة التي تعني الوقوف مع قضيته. بالطبع، هناك مساحات للاختلاف وللجدل، ولكن أيضاً هذه المساحات قد تكون ملغومة إذا قرر الإنسان أن يكون محايداً، بمعنى أن يتعامل مع قضية شعبه كأنها قضية شعب آخر. مثلاً في إشارة سريعة، ففي النقاش حول المحرقة، وحول أعداد القتلى، ومقاصد هتلر، فإن ما يستدعي تركيزي هو أن أي تفسير قد يتم تقديمه من أجل تبرير سرقة فلسطين ومساندة الغرب للصهاينة في ذلك سأكون ضده بالطول وبالعرض. لا فرصة للتفكير. لسنا باحثين ولسنا مؤرخين، ولكننا نعرف حقيقة تاريخية واحدة أن التاريخ الأوروبي، والرواية السائدة فيه، تم تطويعهما من أجل أن يتم تقديم الأعذار لأوروبا لإنشاء وطن لليهود، ألم يكن هذا جوهر الخطاب الأوروبي منذ فجر المشروع الاستعماري؟!