بعيداً، وأبعد ما يُمكن عن الأوصاف والتوصيفات التي وردت في «عريضة الأكاديميين والمثقّفين..»، وتلك التي وردت في الردّ عليها، رسمياً وحزبياً وشعبياً، فإنّ السؤال الذي أرى أنّه لم يُطرح كما يجب، ولم يُسأل بدقّةٍ ووضوح هو: هل كان الأمر كلّه يستدعي هذه «العريضة»؟
أقصد أنّ الموقّعين على «العريضة» اختاروا السبب الخطأ في تبرير «عريضتهم»، وتناسوا السبب الحقيقي الذي كان بالإمكان «تفهُّمه» من قطاعات ثقافية فلسطينية واسعة، ومن أوساط سياسية وحزبية، وحتى من قطاعات شعبية، أيضاً، فيما لو كانوا أثاروه، أو ركّزوا عليه، ووجّهوا سهامهم إليه.
كان بإمكان كلّ من وقّع على «العريضة» أن ينتقد الرئيس أبو مازن لكونه رئيساً أوّلاً وأخيراً قد وضع نفسه في موقع «المؤرّخ»، أو الباحث، وهو أمرٌ لا يُحبّذ على الإطلاق حتى لو كان الرئيس يتمتّع بهذه المواصفات، وذلك لأنّ موقعه الرسمي، والذي هو موقع تمثيلي ــ شئنا أم أبينا ــ لا يُفترض به أن يخوض في قضايا هي في «موضع» خلافات واختلافات حول تاريخ المنطقة، وحول الأحقّيات التاريخية، وحول منطلقات وأهداف المشروع الصهيوني في فلسطين، وحول تبعات هذا المشروع.
ليس هذا فقط، وإنّما، أيضاً، حول الآراء والمعتقدات والأفكار التي تعجّ بها الثقافة «الغربية»، الدينية والسياسية حول تلك «الأحقّيات»، وحول مآلاتها «القانونية»، وحول تبعاتها ومدى «تجسيدها» لتلك الأحقّيات باعتبار هذه الأخيرة جزءاً عضوياً من نسيج المفاهيم، ومن شبكة «المُسلَّمات» المُكوّنة لها.
«الغرب» مُنحاز من الناحية الرسمية، ومن الناحية المؤسّسية من هذه «الرسمية» لمقولات اللاسامية، ومعاداة اليهود، وهواجس إنكار الظلم الذي وقع على اليهود تاريخياً، قديماً وحديثاً على حدٍّ سواء.
ولأنّه مُنحاز، ولأنّ هذا الانحياز مُدعمٌ ومدعومٌ من «الروايات» الدينية المتأصّلة في الوجدان «الغربي»، ولأنّ هذا الانحياز كما نعرف هو في صُلب مصالح «الغرب»، ويرى فيه التجسيد الضروري للحفاظ على هذه المصالح، ولإعادة تأكيد نظرية المركزية الأوروبية بأشكال جديدة ومتجدّدة، فإنّ أيّ خوضٍ في هذه المنظومة «الملغومة» سيتمّ استغلاله من قبل إسرائيل، ومن قبل «الغرب»، كلّ «الغرب» بقدر ما يكون هذا الخوض، رسمياً من الناحية السياسية.
هذا لا يعني، ولا يجوز أن يعني التوقُّف للأسباب التي حاولنا شرحها عن التصدّي لكلّ المفاهيم والمغالطات المضلّلة، من الزاوية التاريخية، أو بالأحرى من زاوية الحقائق التاريخية، بل إنّ العكس تماماً هو الصحيح.
إذ يفترض بالموقّعين على العريضة أنفسهم القيام بهذا الدور، خصوصاً أن جُلّهم من الأسماء المرموقة في كلّ جانبٍ وعلى كلّ صعيد، لاسيّما أنّهم أكثر وأوّل من يُدرك أبعاد المعركة التي تدور رحاها على الرواية الصهيونية، وعلى الرواية الفلسطينية التي تحاول بكلّ السبل والوسائل المُتاحة التصدّي لها.
لو أنّ «العريضة» ـ إذا كان لا بدّ منها ــ توقّفت عند هذه الأبعاد، وعند هذه المحاذير، واقتصر الموقف فيها على انتقاد الطابع الرسمي والتمثيلي لطرحها، لأمكن ليس فقط تفهّمها، وإنّما دعمها والتعاطف مع ما جاء بها.
أمّا أن يُقال في «العريضة» إنّ الرئيس أبو مازن أظهر في حديثه العداء للسامية «باسمنا» فهذا مخالف ومناقض لما قال، وذلك لأنّ الدور الاجتماعي لليهود مسألة مطروقة من فلاسفة وعلماء ومؤرّخين قديماً وحديثاً، بمن فيهم عشرات اليهود أنفسهم، ومنهم من وصل إلى مصطلح «اختراع الشعب» وليس الرواية فقط.
ولو قيل هنا بالذات إن «الغرب» هو المسؤول الأوّل والأخير عن اللاسامية العالمية، وهو المسؤول عن الإبادة النازية لليهود وللشعوب الأخرى، وإننا نحن ضحايا النازية، وضحايا المشروع «الغربي» الذي وجد في المشروع الصهيوني ضالّته التي بحث عنها للتكفير عمّا ارتكبه هذا «الغرب» بحقّ اليهود والشعوب والأقوام والأديان الأخرى لأمكن أن يكون موقف الموقّعين في صُلب الحقيقة، وفي مركز صواب الفكرة والقراءة.
ومُحصّلة الأمر هنا أنّ الموقّعين اعتبروا أنّ ما قاله الرئيس أبو مازن عن الدور الاجتماعي لليهود، والذي قاله قبله وبعده، أوروبيون وأميركيون، عرب وفلسطينيون، يهود وإسرائيليون، هو بمثابة «التبرير» للظلم والمذابح التي ارتكبت بحقّهم، ومن هنا على ما يبدو استنتجوا أنّ حديث الرئيس أبو مازن انطوى على درجةٍ مشدّدة! من اللاسامية.
الحقيقة أنّه لا يوجد أيّ منطقٍ يقبل تفسير الموقّعين لهذه العلاقة، لأنّ مثل هذه العلاقة لم ترد في نصّ حديث الرئيس أبو مازن، وهي إن كانت تحتمل من شيء فهي تحتمل عكسه فقط.
لم يكن استنتاج أو اجتهاد الموقّعين موفّقاً على الإطلاق، وقد بدا متسرّعاً ومتحاملاً لأسبابٍ غير الأسباب التي وردت في «العريضة»، وربّما أنّ التحامل بالذات هو «حقّ» على كلّ حال شريطة أن يرد في مكانه، وشريطة أن يرد لأسباب واضحة ومباشرة، وليس لأسباب فيها الكثير من اللبس الذي نأمل جميعنا أن لا يكون مُوارباً أو مقصوداً.
أغلبية كبيرة من المثقفين الفلسطينيين آثرت الصمت، واختارت النأي بنفسها عن خوض معارك جانبية لا فائدة منها، ولا طائل من ورائها في ظلّ حالة الانقسام التي يعيشها الشعب الفلسطيني، ولسان حال هؤلاء الكتّاب والمثقفين يقول: ألا يكفينا ما نحن فيه وعليه من تفكّك وشرذمة وتشتّت حتى نفتح على أنفسنا أبواباً جديدة للشقاق والانقسام؟
وحتى بعض الزملاء والزميلات الذي تناولوا هذا الأمر فقد تناولوه من موقع نفس المخاوف والمحاذير التي نخاف منها جميعاً، وهي الحرص على عدم زيادة حالة الانقسام في الحالة الوطنية.
المشكلة أنّ لغة «العريضة» كانت تفتقد إلى الدقّة، واتسمت بدرجةٍ غير متفهّمة من التسرّع والتحامل المسبق، تماماً كما اتسمت لغة الاعتراض على «العريضة» بالأوصاف والألفاظ التي تدير ظهرها عند كلّ منعطف، وعند أوّل منعطفٍ لأسس إدارة الاختلاف وقواعد تنظيمه، والذهاب الأسرع من المتسرّع في وصف قامات وطنية لها إسهاماتها ودورها في مسيرة العمل الوطني، وفي إغناء التنوّع والتعدّدية الثقافية التي يتميّز بها المجتمع الفلسطيني.
لم يكن مطلوباً، وربما ليس مطلوباً أبداً ولا حتى الآن «مجاملة» هؤلاء الموقّعين على «العريضة»، ولكن يفترض أن يكون مرفوضاً وبالمطلق إطلاق الأحكام والنُّعُوت والصفات التي تَهدِم، ولا تَبنِي، تقطع ولا تصل، وتُمعن في بثّ وبذر الشقاق بدلاً من مداواة الجِرَاح.
في ظروفٍ أخرى كان يمكن فتح حوارات كبيرة حول «تبعات» ما جاء في «العريضة» من أخطارٍ على وحدة الموقف الوطني، وعلى تصليب الموقف حيال قضية الرواية الوطنية، لكنّ الحوار لم يعد مُجدياً طالما أنّه سيتخذ شكل الانحياز، بهذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك لصالح فريقٍ ضد آخر، مع أنّ المفترض أنّنا فريق واحد في وجه الرواية الصهيونية. لم يعد هذا الأمر مجدياً على الإطلاق، ولكنه بات يحتّم حوارات أخرى، ومن نوعٍ آخر، وعلى مستويات أكبر وأشمل حول الرواية الفلسطينية وحول محظورات الوقوع في براثن الرواية الصهيونية المدعومة دون تحفُّظ من الأوساط الأكاديمية والثقافية «الغربية» على نطاقٍ واسع.
وبطبيعة الحال فليست اجتماعات هيئات الفصائل هي المكان المناسب لهذه الحوارات، وليست «العرائض» هي الشكل الأنسب على الإطلاق.