مع بريماكوف في طهران: من الإعجاب إلى التحفظ وكلمةٍ سواء!!

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم د.أحمد يوسف

 

facebook sharing button

twitter sharing button

 

 

في عام 1998، شددت رحالي إلى إيران للمشاركة في مؤتمر لدعم الانتفاضة الفلسطينية، والذي حضرته المئات من الشخصيات الإسلامية من بلدان الشرق الأوسط، وعشرات أخرى جاءت من دولٍ غربية تمثل قيادات الجالية المسلمة.


استمرت زيارتي تلك لمدة أسبوعين، حيث أقمت خلالها في فندق آزدي طهران، أحد أهم وأكبر فنادق العاصمة، والذي تنزل فيه -عادة- مع فندق الاستقلال أهم الشخصيات الرسمية.


بعد المؤتمر الذي استمر ليومين، كانت هناك فرصة لي لزيارة الكثير من الأماكن الدينية والسياحية.. كانت زيارة مدينة قم المقدسة التي تبعد عن العاصمة حوالي 157كم، وتتقاطر إليها الآلاف من كل أنحاء إيران للصلاة وزيارة المزارات الدينية، وأهمها مرقد فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى الكاظم، كما أنَّ قم تعتبر الحوزة العلمية التي فيها المركز العلمي الديني للشيعة بعد النجف، وتوجد فيها الكثير من المكتبات التي تتوافر فيها أمّهات الكتب لعلماء الشيعة بمختلف مدارسها الفقهية.


كان يوماً حافلاً بزيارة الأماكن التاريخية للمدينة ومن بينها المكان الذي نشأ فيه الإمام الخميني ..


وفي طريق عودتنا إلى طهران، توقفنا لزيارة ضريح الإمام الخميني في مقبرة "جنة الزهراء"، وهي منطقة أصبحت مزاراً ومكاناً سياحياً تقصد آلاف العائلات الإيرانية.


بعد انتهاء المؤتمر، توفر لدينا الكثير من الوقت للتنقل والأنشطة السياحية.. في يوم من تلك الأيام، نزلت إلى مطعم الفندق لتناول وجبة الإفطار، وبينما أقلب نظري لمكانٍ للجلوس فيه، فإذا أنا وجهاً لوجه أمام شخصية لطالما شاهدتها على التلفاز أو قرأت لها، كرئيس لجهاز الاستخبارات الروسي (الكي جي بي)، ثم وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء السيد فيكيني بريماكوف.


حملت طعامي ثم اخترت مكاناً قريباً منه، وجلست أحملق في الرحل، واستدعى سجلات الذاكرة حتى أتأكد من أنه نفس الرجل الذي ألفت صورته عيناي لسنوات طويلة.


دقائق وأنا أُشنِّف أُذناي للتأكد من صوته، وأنه لا يختلف عن تلك النبرة التي اعتدت سماعها باللهجة الروسية.


انتهيت من تناول إفطاري على عجل، ثم توجهت للسلام عليه، وتبادل بعض الكلمات معه قبل أن يغادر المكان.


أقبلت عليه مُسلِّماً وخاطبته باللغة الإنجليزية رغم معرفتي أنه يتحدث العربية بطلاقة، وقدَّمت نفسي كفلسطيني يقيم في العاصمة الأمريكية واشنطن، وحضوري هنا هو للمشاركة في مؤتمر إسلامي لدعم القضية الفلسطينية. هزَّ رأسه مبتسماً، وقال إن له محاضرة بالمركز الدبلوماسي التابع للخارجية الإيرانية. اتصلت بصديقي ساجدبور، الذي يتقلد منصباً رفيعاً هناك، وأعربت له عن رغبتي في حضور محاضرة السيد بريماكوف.. فرحب وتمَّ ترتيب القدوم إلى المكان.


كانت المحاضرة في الساعة 11 صباحاً، وكانت القاعة مكتظة بالشخصيات الدبلوماسية من عرب وعجم، واستمرت مع أسئلة ونقاشات الحضور حوالي الساعتين، قدَّم فيها تعريفاً لظاهرة الإرهاب، وموجهاً انتقادات حادة للتطرف الإسلامي، والحركات التي تمثله، داعياً القوى العالمية من اشتراكية وليبرالية إلى محاربته والتصدي له لخطورته على الحضارة الإنسانية!!


لقد أثار استغرابي لهجة الخطاب وحدَّة الانتقادات التي لا تختلف كثيراً عما نشاهده عندنا في أمريكا، من حيث النبرة والأجندة والأسلوب!! إذا كانت تلك السنوات يغرد فيها الكلُّ ويعزف على وتر الأصولية الإسلامية، وكأنها الشر المستطير.
لأول مرة أشعر بأن روسيا تبدو كباقي الدول الغربية في محاكاتها للسياسة الأمريكية، وخاصة في نظرتها للحركات الإسلامية وتصنيفها للإسلاميين من سلفيين وإخوان مسلمين بالتطرف والإرهاب.


لقد شعرت بالإهانة وأنا أسمع مثل هذا الخطاب عن الأصولية الإسلامية وتصنيفها بالتطرف والإرهاب في عقر بلدٍ مسم كالجمهورية الإسلامية الإيرانية.


في تلك الفترة، كان الإصلاحيون برئاسة محمد خاتمي هم من يوجِّهون السياسة الإيرانية، ويسعون إلى تصفير وحلِّ مشاكل بلادهم مع العالم العربي، وخاصة الدول الخليجية، وكذلك مع الدول الغربية وأمريكا، حيث كانت رؤية الرئيس خاتمي هي في اتجاه حوار الحضارات وتعايش الثقافات، بهدف تخفيف الاحتقان بين الشرق والغرب.


كإسلامي خرجت ممتعضاً من الطريقة التي جرى فيها استهداف الإسلاميين والحركات الإسلامية في العالم العربي، ولذلك خرجت دون السلام عليه، وعاتبت صديقي الإيراني على مثل هذه الاستضافة؛ لأنها تُشكل إساءة لنا كإسلاميين ولديننا كمسلمين ولإيران الإسلامية نفسها.


في تلك الفترة من نهاية التسعينيات، كنت أقيم مع صديق عراقي تخرَّج من جامعة (موسكو الحكومية)، وعمل لعدة سنوات من السبعينيات في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية التي كان بريماكوف مديراً له.


عند عودتي من طهران، حدثت زميلي د. محمد سليم مطولاً عن بريماكوف؛ اللقاء والمحاضرة، وعن حجم الصدمة من لغة حديثه عن الإسلاميين والظاهرة الإسلامية ومحاولة ربطها بالتطرف والإرهاب.


أجاب صديقي العراقي: إنَّ معرفتي بالسيد بريماكوف أنه شخصية استثنائية، من حيث مستوى الذكاء والدراية في عالم السياسة والاقتصاد والعلوم العسكرية والأمنية، وله معرفة وسعة اطلاع ببلدان الشرق الأوسط، وخاصة مصر والعراق والسعودية وسوريا والأردن، كونه عمل مراسلاً صحفياً لجريدة برافدا، ونجح في إقامة صداقات مع زعامات عربية، مثل: صدام حسين وملك الأردن وحافظ الأسد وحسني مبارك وياسر عرفات، الامر الذي ساعده في إصدار العديد من الكتب والدراسات حول تاريخ الشرق المعاصر ووضعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد ذكر لي صديقي العراقي بعضاً من هذه الكتب، مثل: دول الجزيرة العربية والاستعمار، ومصر: عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والنزاعات الدولية في الستينات والسبعينات، وأيضاً كتاب الشرق الأوسط: خمسة دروب إلى السلام، وكتاب الشرق الأوسط.. المعلوم والمخفي، وغيرها من الكتب والدراسات والمذكرات.


لقد ذكرت لصديقي مدى امتعاضي وشعوري بخيبة الأمل التي عشتها وأنا أستمع لحديثه عن الإسلام والأصولية الإسلامية في طهران، إلا أنَّه هزَّ رأسه ولم يعلق كثيرا.


لا شكَّ أنَّ بريماكوف الصحفي والمختص في شؤون الشرق الأوسط والصديق للفلسطينيين كان شخصاً يلقى الكثير من التقدير والترحاب في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط، ولا تحفظ ذاكرة جيلي عنه إلا أنه كان سياسياً مُحنَّكاً، وأنَّ مواقفه كرجل أمنٍ ووزيرٍ للخارجية ورئيسٍ للوزراء كانت منصفة لنا كفلسطينيين.