حلّ الدولتين كقناع..!!

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

يشهد النظام الإسرائيلي ظاهرة صراع بين معسكرَين، هي في الجوهر، على روح الدولة وهويتها. وصلنا في معالجة سبقت إلى فرضية قوّة النظام، ودلّلنا عليها بصموده في ظل حالة استقطاب حادة، دون لجوء الأطراف المتنازعة إلى العنف، وفسّرنا القوّة بثقة أطراف النزاع بما يكفل لهم النظام وحقله السياسي من ضمانات ويوفر لهم من حقوق، بما فيها الحق في إسقاط الحكومة، وتعديل القوانين عبر المؤسسات ذات الصلة، وكافة المظاهر السلمية للاحتجاج.
ونصوّب أنظارنا، اليوم، باتجاه آخر. المقصود: أن الصراع بين معسكرَين يتنافسان على روح الدولة وهويتها، يزوّدنا بما يصلح نموذجاً فكرياً، أو إدراكياً جديداً paradigm لا نُشخّص به ما يجري على الأرض منذ مطلع العام وحسب، بل ويمكننا من نقد النموذج السائد، أيضاً.
بداية: نُعرّف النموذج الإدراكي بجملة من التصوّرات والممارسات (بما فيها اللغوية) التي لا غنى عنها في كل عملية محتملة للقياس والتشخيص. فالاستشراق، بالمفهوم السعيدي، نموذج إدراكي. وكذلك الدولة الإسلامية، بمفهوم سيد قطب، والاشتراكية بمفهوم لينين، والثورة بمفهوم جورج حبش. كلها، وكل ما يمكن أن يُصاغ كتصوّرات وممارسات يصير نموذجاً إدراكياً لإنشاء علاقة بالعالم، والحكم على أشياء مختلفة.
وبهذا المعنى نرى "حلّ الدولتين" بوصفه ترجمة لنموذج إدراكي جديد، تفرّع عن نماذج أقدم، وصار قيد التداول منذ أربعة عقود على الأقل. التجليات الفلسطينية للنموذج غير مطلوبة، هنا، فالأمر يقتصر على الحالة الإسرائيلية. ويمكن، في هذا الصدد، وضع النموذج المقصود في مرتبة الثاني بين نموذج إدراكي أوّل رافق الأوّل الدولة الإسرائيلية في عقودها الأولى، وحتى اجتياح بيروت، بينما تبدو ملامح الثالث، في طور التكوين، منذ عقدين على الأقل.
يختزل خيار من لا خيار لديه، ومجاز الجلّاد المقدس، الذي يطلق النار ويبكي، النموذج الأوّل الذي ساد في العقود الأولى للدولة. آنذاك، لم يشكل الفلسطينيون خطراً بالمعنى الأخلاقي والسياسي على روح الدولة وهويتها، بل كانوا وسيلة إيضاح للعبء الأخلاقي المُروّع، الذي فرضته أقدار قاسية على الإسرائيليين أنفسهم. ولعل عبارة شائعة لغولدا مائير توجز هذا كله: "نحن لا نكره الفلسطينيين لأنهم يقتلون أولادنا، ولكن لأنهم يرغمون أولادنا على قتلهم".
على أي حال، نجم النموذج الثاني عن فشل النموذج الأوّل بعد احتلال العام 1967، وعودة الفلسطينيين إلى التاريخ بالحركة الفدائية، ومنظمة التحرير. وشكّلت بطانته الفكرية مرافعات من نوع: الصراع المأساوي بين حركتين قوميتين، وما يتصل بفكرة كهذه من الاعتراف بحقوق من نوع ما للفلسطينيين، وإمكانية اقتسام الأرض. وقد أسهم حدثان أساسيان هما حرب لبنان 1982 والانتفاضة الفلسطينية الأولى في ولادة نموذج كان "حل الدولتين" أبرز ترجماته.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنموذج الإدراكي الثالث، فينبغي القول: إنه في طور التكوين، أي لم تكتمل ملامحه بعد. هذا لا يعني عدم القدرة على تشخيص ملامح تبدو بارزة، والمجازفة بأفكار لا تبدو سابقة لأوانها. فعمره من عمر صعود اليمين الإسرائيلي عموماً، منذ حرب الانتفاضة الثانية، وهيمنة الليكود، وشركاه على الحقل السياسي الإسرائيلي، على مدار العقدين الماضيين، وصولاً إلى واقع "لم يعد الأمر وجود أنصار للمستوطنين في الحكومة، فقد صاروا هم الحكومة"، كما علّق أحد الإسرائيليين في "هآرتس" قبل أشهر قليلة.
وبقدر ما يعنينا الأمر، فإن ثمة مرافعة أساسية تشكّل بطانة للنموذج الإدراكي الثالث، وتنقض في الوقت نفسه المرافعة الرئيسة للنموذج الثاني. خلاصة المرافعة أن الفلسطينيين يقيمون بصفة غير شرعية في "أرض إسرائيل"، أقاموا فيها بعد شتات أصحابها اليهود، وعودة هؤلاء من المنفى تنفي شرعية وجود الفلسطينيين.
يمكن لمن شاء أن يرى ما شاء من الجنون القيامي في نموذج كهذا. فالنظام الإسرائيلي أكثر عقلانية، والواقع الإقليمي والدولي، وكذلك التاريخ الطويل للصراع في فلسطين وعليها، لا يُضفي على مرافعات كهذه أكثر من صفة الجنون المُطلق.
ومع ذلك، العالم "ليس عاقلاً" بقدر ما يتعلّق الأمر بالحركات القيامية، وآخر تجلياتها "داعش" التي أعادت إحياء الرقّ، وكان بين دعاتها الأوائل، بالمعنى الأيديولوجي، أشخاص أفتوا، في وضح النهار، بطريقة شرعية تماماً، بأن سبب فقر المسلمين في الأزمنة الحديثة هو الكف عن الغزو والسبي. لذا، لا ينبغي التقليل من شأن النماذج الإدراكية، وقابليتها للتعميم وطموحها للهيمنة، لمجرّد وجود ما يسمها من شر مستطير، وجنون مطلق.
والمهم، أن المرافعة المذكورة تجد ما يبررها في الشريعة اليهودية. وهنا مربط الفرس. فالشريعة هي العنوان الرئيس للصراع بين معسكرَين على طرفَي نقيض، وهي النموذج الإدراكي الأكبر الطامح إلى موقع السيادة والهيمنة، بتقليص الصفات العلمانية للدولة والمجتمع، وتعزيز التأويلات الدينية لمعنى أن تكون إسرائيل دولة يهودية.
بمعنى أكثر مباشرة: إذا صارت الشريعة اليهودية مصدر التشريع، وصارت للقائلين بها قاعدة انتخابية واسعة، وأغلبية برلمانية تمكنهم من فرض القوانين والتشريعات، فمن الهبل أن يتصوّر أحد تطبيق القوانين الخاصة بحرمة السبت على وسائل النقل العام، مثلاً، والاستنكاف عن تطبيق القوانين الخاصة بملكية الأرض، والأغيار، على الفلسطينيين.
وما ينبغي أن يقرع أكثر من جرس للإنذار أن معارضي "الانقلاب القضائي" (وهذه صيغة محايدة وبليدة، تقريباً، لوصف الصراع على روح الدولة وهويتها) يعارضونه دفاعاً عن أسلوب حياتهم في المقام الأوّل، لا بقدر ما ينتهك من الحقوق والقيم الإنسانية العابرة للصراعات والقوميات. وفي هذا ما يبرر إعادة النظر في مفهوم "حل الدولتين". فرضيتي: أسهم "الحل" في ديمومة الاحتلال، وكان قناعاً مثالياً لمتظاهري اليوم دفاعاً عن أسلوب حياتهم.. فاصل ونواصل.