يُعاني الإنسان في قطاع غزّة كافة أنواع الظلم والمرار والحصار والمرض والحروب المتتالية التي أنهكته وجعلته يتمنى الموت أو الهجرة عنها دون عودة.
طبياً يُعاني القطاع الصحي في غزّة من عدة عراقيل وتضييقات عليه من قبل الاحتلال "الإسرائيلي" الذي يمنع دخول الأدوية اللازمة للمرضى بشكلٍ عام، ومن جانبٍ آخر يمنع بعضهم من السفر للعلاج في الداخل المحتل والقدس والضفة الغربية، فتتدهور حالة مرضى الأمراض المزمنة مثل مرضى السرطان ومرضى الفشل الكلوي ويصل الحال ببعضهم للموت المحتم نتيجة عدم تلقيهم العلاج المناسب.
في هذا التقرير نُسلط الضوء على مرضى الفشل الكلوي المهددة حياتهم بشكل جدي للخطر، جراء النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية التي يمنع الاحتلال إدخالها، وبالتالي تبقى الأوضاع الصحية سجينة في غزّة نتيجة استمرار الحصار "الإسرائيلي" المفروض على القطاع.
داخل مجمع الشفاء الطبي وفي قسم غسيل الكلى، يجلس المرضى على أسرّتهم الطبية، في مشهد يُدخل للقلب الحزن الشديد، ومظاهر الألم والتعب تبدو على وجوه المرضى وأجسادهم، بينما ينتظرون دورهم لجلسات غسيل الكلى، حيث يجري تقسيمهم على ثلاث فترات خلال اليوم الواحد، لضمان تقديم الخدمة لهم جميعاً، والتي تُمثّل بارقة أمل للبقاء على قيد الحياة.
ويبلغ عدد مرضى الكلى في غزّة 1100مريض تقريباً، بينهم 38 طفلًا، حيث تُوفر وزارة الصحة بغزّة ستة مراكز لغسيل الكلى موزعة على كافة محافظات قطاع غزّة، فيما يحتاج هؤلاء المرضى إلى غسيل كلى ثلاث مرات أسبوعياً أيّ ما يُعادل "12 مرة" شهريًاً.
"أموات بكل الأحوال"
سحر حميد "36عاماً"، التي أنهكها المرض ولم تجد الراحة من لحظة اكتشافها أنّها مريضة بالفشل الكلوي، فأصبحت غرفة المستشفى كغرفتها في منزلها يعرفها الممرضون والأطباء كيف لا وهي تقوم بزيارتهم 3 أيام في كل أسبوع، فقد تعودت على المرض وتعود عليها وألقت بحملها على الله القادر أنّ يشفيها، لكِنها لم تتمالك أعصابها ودموعها حين علمت بأنَّ المستشفيات تُعاني نقصاً في أدوية ومعدات مرضى الفشل الكلوي واحتل الخوف جوارحها، تقول: "لم أذق طعم النوم بسبب التفكير بما ستؤول إليه أوضاعنا حين تنفذ أدويتنا من المستشفيات كما حذرت وزارة الصحة قبل أيام".
وتابعت في حديثها لمراسلة "خبر": "نحن نعيش على غسيل الكلى، ونرى الموت في كل جلسة من جلسات الغسيل، حتى المرض يلاحقونا عليه ويحاربونا به، ما ذنبنا نحن لكي نُعاني المرار مرتين، في الأولى حين أصبنا بالمرض ورضينا بنصيبنا والثانية حين يمنع الاحتلال دخول المعدات والأدوية اللازمة لنا، وإنّ لم نمت من الفشل الكلوي سنموت من كثرة التفكير ونحن نشاهد ونسمع تصريحات الصحة التي تُصيبنا بالاكتئاب والخوف أكثر".
وناشدت حميد، المسؤولين بضرورة إيجاد حل جذري لكي لا يعيشوا على أعصابهم كما يعيشونه هذه الفترة وإيجاد طرق بديلة بعيداً عن الاحتلال لتوفر المعدات والأدوية اللازمة.
نجلس 3 أيام تحت جهاز يقوم بوظائف الكلى
المسن عبد السلام رأفت "60 عاماً"، الذي يخضع لثلاث جلسات لغسيل الكلي أسبوعياً، بدى على جسده النحيل المائل اللون الأصفر مزيداً من التعب والإرهاق والمرض، وبالكاد تخرج من بين شفتيه بعض الكلمات الثقيلة على الروح والقلب، يقول: "ثلاث أيام لا أجد للراحة طعم، أشعر بأنّي أموت وأحيا في نفس الوقت، للأسف الكثير لا يعلم مدى أهمية الكلى بالنسبة للجسم، وما تعنيه أنّ تفشل جميع وظائفها مرة واحدة، فتضطر للجلوس بجوار جهاز لتنقية الدم في جسمك ويُخرج السموم منه ومن ثم يُعيده مرة أخرى، أليس هو بالأمر العظيم، نحن نعيش على هذا الجهاز الذي يقوم بجميع وظائف الكلية، ويبقينا على قيد الحياة حتى يأتي كل منا أجله، وفي ظل ذلك كله تتهدد حياتنا بين الفترة والأخرى بالموت نتيجة شح الأدوية اللازمة لنا، لا أقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل هو القادر أنّ يشفينا ويرحمنا من هذا العذاب الذي لا يُطاق".
"طفلاي يموتان أمام عيني كل يوم"
تجلس الأم تبكي على طفليها اللذان لم يبلغا الـ10 والـ 13 عاماُ بعد، والمصابان بالفشل الكلوي الوراثي، وتقول "أم حسن" بكل حرقة: "لا يُمارس أولادي حقهم الطبيعي كغيرهم من الأطفال في اللعب والتعليم، فمعظم أيام الأسبوع يكونان شبه ميتين تحت جهاز غسيل الكلى فيصابان بعدها بإغماء ووجع وتعب ويبقيان في السرير دون أن يعملا شيئاً أو يقومان بمتابعة واجباتهما المدرسية، وكلما أراهما على هذه الحالة يزداد وجع وأتمنى الموت في كل لحظة".
وتُضيف أم حسن: "رضيت بما قسمه الله لي مع العلم أنَّ زوجي توفي قبل 3 سنوات بنفس المرض، وترك لنا أطفاله اللذان يُعانيان نفس معاناته، حتى أنّه في مرة من المرات دخلت على أولادي الغرفة ووجدتهما يدعيان الله أنّ يريحهما من هذا العذاب الكبير ويلحقان بوالدهما، فحضنتهما وقبلتهما وتحدثت معهما قليلاً لأرفع روحهما المعنوية، ولكن هيهات فما يشعران به يفوق الخيال".
وأوضحت أنّها بحثت عن متبرعين لكي يعيش أولادها حياة طبيعية كغيرهم من الأطفال لكِنها لم تجد، وهي لا تملك المصاريف وثمن الكلية، وإنّ فكرت بالسفر خارج القطاع على أيّ دولة أخرى، فهي على الأقل تحتاج لآلاف الدولارات لمثل هذه العمليات، وقالت: "نكتفي بما هو موجود داخل مستشفيات القطاع وخضوع أولادي تحت الجهاز وهم الآن يصرحون أنّ هناك عجزاً سيطال أقسام الكلى، حتى حقهم في الحياة مسلوب بغزّة، لا المريض ولا المعافى يعيش كما يجب أنّ يكون، لذلك نتمنى أنّ تجد وزارة الصحة حلولاً جذرية وأجهزة وأقسام أكثر تطوراً لمثل تلك الأمراض، كأقسام الكلى والسرطان والقلب وغيرها من الأمراض المزمنة والمميتة".
نقص حاد قد يؤدي لتوقف خدمة غسيل الكلى
وكانت وزارة الصحة في غزّة، قد أعلنت عن نقص حاد في المستهلكات الطبيّة الخاصة بمرضى الفشل الكلوي، وحذّرت من النقص في الاحتياجات الطبية في أقسام غسيل الكلى، جرّاء العجز والنقص الدوائي في المستودعات، والذي قد يؤدي إلى توقف خدمات غسيل الكلى كلياً في أروقة مستشفيات قطاع غزّة.
جدير ذكره أنَّ المرضى الذين يزرعون كلى يحتاجون إلى أدوية وعلاجات مزمنة باهظة الثمن، وبما أنّ وزارة الصحة تُحذر من فراغ المستودعات المركزية بشكلٍ تام من المستهلكات الطبية الخاصة بعلاجهم فإنَّ الخطر يحدّق بهم.
مدير دائرة صيدلة المستشفيات في الإدارة العامة للصيدلة بوزارة الصحة بغزّة، علاء حلس، كشف عن مصادر التمويل والعجز الذي تُعانيه وزارة الصحة جراء نقص الأدوية والمعدات لمرضى الكلي، وقال: "إنَّ وزارة الصحة تعتمد على ثلاثة مصادر تمويل أساسية لتوفير الاحتياجات من الأدوية والمستلزمات الطبيّة، تمثلت في وزارة المالية بغزّة، شحنات الأدوية المرسلة من رام الله، وتبرعات وهبات من الدول المانحة، فيما تُغطي هذه المصادر 60% فقط من احتياج القطاع الصحي، الذي يحتاج ما بين 4-5 ملايين دولار أمريكي شهرياً، مما يكشف عن عجزٍ دائم بنسبة 40% في وزارة الصحة".
وأوضح أنَّ جلسات غسيل الكلى تستلزم مستهلكات طبية يحتاجها كل مريض، وهي: فلتر للدم، وأنابيب للدم، ووصلتين دموية. يقول، "وتستخدم هذه المستلزمات لمرة واحدة وبتكلفة عالية الثمن لا يستطيع المريض تحملها".
وحذّر حلس، من توقف مراكز غسيل مرضى الكلي عن تقديم خدماتها خلال أيام معدودة في كافة مستشفيات قطاع غزة التي تقدم ما يزيد عن 13 ألف جلسة غسيل للمرضى شهرياً.