منذ سنوات، يعيش المواطنون الفلسطينيون في الجليل والمثلث والنقب تحت تهديد عصابات الجريمة المنظمة، التي جمعت كميات كبيرة من الأسلحة على مدى العقدين الماضيين، حصلت عليها، غالباً، من مخازن الجيش والشرطة، وتمت سرقتها وبيعها من قبل مجندين سابقين، وهي متورطة في أنشطة مثل الاتجار بالمخدرات والأسلحة والدعارة والابتزاز وغسل الأموال.
وتشير التقديرات إلى أن نحو 70 % من جميع جرائم القتل في البلاد تتم داخل المجتمع العربي، على الرغم من أن العرب الفلسطينيين يشكلون 20% فقط من سكان إسرائيل. ويبقى معظم جرائم القتل في المجتمع العربي من دول حل؛ فمن بين الحالات الـ 42 التي تم تسجيلها خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي، تم حل حالتين فقط، وفقاً لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية اليومية، وذلك في مقابل حل أكثر من 83% من جرائم القتل في المجتمع اليهودي خلال الفترة نفسها[1].
تصاعد غير مسبوق في جرائم القتل
شهدت الأشهر الأخيرة تصاعداً غير مسبوق في جرائم القتل المرتكبة على يد هذه العصابات، إذ قتل منذ بداية العام الجاري 158 فلسطينياً على يدها، وهو معدل قياسي، بينما تمّ في سنة 2022 كلها تسجيل 116 جريمة قتل. ففي 8 حزيران/يونيو الفائت، قتل في بلدة يافة الناصرة خمسة أشخاص بالرصاص في مغسلة سيارات، من بينهم صبي يبلغ من العمر 15 عاماً، وذلك بعد أن اقتحم رجلان ملثمان المغسلة على دراجتين ناريتين وفتحا النار عليهم. ووصف ماهر خليلية، رئيس المجلس المحلي للبلدة، تلك الجريمة بـ"المجزرة"، محملاً تراخي الشرطة المسؤولية عنها، بينما أكد أحد الصحافيين أن إطلاق النار في تلك البلدة وقع بينما كانت مروحية تابعة للشرطة تحلق فوقها، بحثاً عن منفذي جريمة أخرى وقعت في بلدة كفر كنا. وفي الأسابيع الأخيرة، استهدفت نيران الرشاشات منزل رئيس المجلس المحلي للبلدة، ماهر خليلية، بينما كان أطفاله الأربعة فيه، كما تمّ استهداف سيارتَي اثنين من أبناء عمومته. ويوضح ماهر خليلية أن رجال المافيا "يحاولون ابتزاز الشركة التي تُعنى بجمع قمامة البلدة"، وأنه "طلب من المقاول ألا يستسلم، وطلب من الشرطة القيام بدوريات أثناء جمع القمامة، ولكن لا يوجد سوى ضابطين شرطة مخصصين لبلدتي، ومعهما سيارة واحدة، وهذا لا يكفي".
ويضيف: "تقع مسؤولية مكافحة هذا النوع من الجرائم على عاتق الشرطة وقادة الحكومة، لكن المشكلة هي أن الحكومة الإسرائيلية تتجاهل المجتمع العربي"[2].ومساء يوم الاثنين في 21 آب/أغسطس الماضي، قتل عبد الرحمن قاشوع، مدير عام بلدية الطيرة، في عملية إطلاق نار، نجم عنها إصابة اثنين آخرين بجروح، وذلك خلال وجوده معهما في سيارة قرب مقر الشرطة. وفي اليوم التالي، قُتل أربعة أفراد من عائلة واحدة بالرصاص من مسافة قريبة على يد شخص مجهول في بلدة أبو سنان في منطقة الجليل. وكان أحد الضحايا، غازي صعب، المرشح للانتخابات البلدية المقرر إجراؤها في 31 تشرين الأول/أكتوبر القادم، قد بعث مؤخراً برسالة تحذيرية على موقع فيسبوك أكد فيها أن "العنف تجاوز كل الحدود"، مشدداً في الوقت نفسه على أنه "لم يعد بإمكاننا البقاء صامتين"[3].
ورداً على استهداف القادة السياسيين العرب، عقدت "لجنة المتابعة العربية العليا"، اجتماعاً طارئاً في بلدية الطيرة في 22 آب/أغسطس، أعلنت فيه أن عصابات الجريمة المنظمة "وضعت هدفاً لها تصفية قادة سياسيين عرب في الحركة الوطنية وتشارك الحكومة في هذه المهمة، لأن لديهما مصلحة مشتركة في التخلص منهم ومن نشاطهم الوطني الذي يشمل أيضاً محاربة الجريمة"، مؤكدة أن "لدى الأجهزة الإسرائيلية من مخابرات وشرطة ونيابة، كل المعلومات والتفاصيل حول أوكار الجريمة في المجتمع العربي، وهي تمنحها كامل الحماية، وهذا ورد في تصريحات ضباط شرطة كبار، وحتى أعضاء كنيست، كما أن عصابات الإجرام باتت ترتكب جرائمها بجرأة أشد خطورة، لأنها تعي أنها محمية ولا رادع لها، بل هي تخدم الأهداف التي تريد المؤسسة الإسرائيلية تحقيقها من اتساع دائرة الجريمة والعنف، وأولها تفتيت مجتمعنا وإنهاكه تحت الرعب". وخلال ذلك الاجتماع، تحدث رئيس اللجنة محمد بركة، فقال: "إن الأيام الأخيرة شهدت سلسلة اعتداءات وجرائم ضد قيادات سياسية؛ فقد تم اغتيال الشيخ عبد الرحمن قاشوع، مدير عام بلدية الطيرة، وسبق ذلك بساعات اعتداء دام من قوات الشرطة على رؤساء البلديات العربية الذين تظاهروا أمام مقر وزارة المالية في القدس (الاثنين) احتجاجاً على تجميد ميزانيات للسلطات العربية، كما تم إطلاق قنبلة يدوية على بيت رئيس بلدية رهط، عطا أبو مديغم. وقبل ذلك تم إلقاء قنبلة على بيت رئيس مجلس كفر ياسيف المحلي، شادي شويري". ودعت اللجنة، في ختام اجتماعها، إلى إضراب عام احتجاجاً على هذه الممارسات الإجرامية وتواطؤ الشرطة معها[4].
عوامل تصاعد الجريمة المنظمة
يجمع المحللون على أن هذا التصاعد في الجريمة المنظمة داخل المجتمع العربي يعود إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية المتقاعسة في مواجهة هذه الظاهرة، من جهة، وإلى سياسة التمييز العنصري التي تنتهجها هذه الحكومة إزاء المواطنين العرب الفلسطينيين، من جهة ثانية.
فبحسب الصحافية الفرنسية كلوتيد مرافكو، تزدهر الجريمة المنظمة "بسبب التهميش الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الفلسطينية في إسرائيل بعد عقود من سياسات التمييز في الميزانيات، وفي تخصيص الأراضي، وفي الوصول إلى مجالات العمل؛ وفقاُ لتقرير رسمي لسنة 2021، يعيش 39% من فلسطينيي إسرائيل تحت خط الفقر". وتضيف الصحافية نفسها "أن الفجوة التي يتعين سدها بين البلديات العربية واليهودية سحيقة؛ ففي سنوات الألفين، كانت معظم البلديات الفلسطينية الإسرائيلية مدينة بالمال، وقد وُضع بعضها تحت مراقبة محاسب، وكان بعضها-مثل الطيبة-مُسيّراً مباشرة من طرف موظف تعيّنه الدولة"[5].
وتشير تقارير أخرى إلى "نقص تزويد القرى العربية بالاعتمادات ومراكز الشرطة"، وإلى أن "نصف الأطفال الذين يعيشون تحت خط الفقر في إسرائيل هم من العرب"، وإلى أن الدولة، التي بنت مئات المستوطنات وراء "الخط الأخضر" خلال 50 عاماً، "لم تطلق مشروعاً عقارياً واحداً لحل أزمة السكن الخانقة في البلدات العربية في إسرائيل"، بينما هي تمنع المواطنين العرب "من شراء أو استئجار العقارات خارج معازلهم"، كما "لم يتم افتتاح أي جامعة في أي منطقة عربية منذ ولادة إسرائيل"، وهو ما "ينطبق على المستشفيات والمدارس والمراكز المجتمعية والبنية التحتية والمناطق الصناعية وما إلى ذلك"، بحيث "كان المواطن العربي، ولا يزال، في أسفل أولويات الحكومات المختلفة في إسرائيل، وينطبق هذا أيضاً على مجال أولوياتهم: الأمن"[6].
احتجاجات شعبية على تواطؤ الشرطة
"الشرطة في خدمة الجريمة"؛ كان هذا الشعار أحد الشعارات التي رفعها المواطنون العرب الفلسطينيون خلال إحدى حملاتهم الاحتجاجية على تصاعد الجريمة المنظمة داخل مجتمعهم، وذلك للتأكيد على تواطؤ الشرطة في ارتفاع معدل جرائم القتل، وفشلها في تأمين الحماية للمواطنين، وحتى مساهمتها في الاتجار غير المشروع بالأسلحة.وتستشهد الصحافية كلوتيد مرافكو بالباحث الفلسطيني في جمعية "بلدنا" للشباب العربي، وئام بلعوم، الذي يؤكد أن "المشكل سياسي بامتياز"، ويقول: "بأنه في الأحياء العربية لمدينة اللد، وسط البلاد، عندما تحصل جريمة قتل، تقوم الشرطة بغلق المنطقة لمدة تتراوح بين 10 و15 دقيقة فقط، ثم تغادر؛ في يوم ما، كان يهودي يسير في الحي فقُتل خطأً خلال تبادل إطلاق نار بين عصابات عربية؛ أخبرنا الناس أن الشرطة جاءت وجمعت كل الرصاص من الشارع، وكل أعقاب السجائر، وبقيت لساعات تفتش وتستجوب الناس.. لقد رأى السكان الفرق! هذا ليس عنصرية فحسب، بل يعطي إشارة مفادها أن قتل العرب مستباح"[7].
وشهدت الأسابيع الأخيرة تصاعداً في حملات الاحتجاج على تواطؤ الشرطة، ومن خلفها الحكومة الإسرائيلية، إذ نصب الفلسطينيون يوم الاثنين في 29 أيار/مايو الفائت، بدعوة من "لجنة المتابعة العليا"، خيمة اعتصام أمام مقر الحكومة في القدس، لمدة ثلاثة أيام، وطالب المشاركون الشرطة بتأمين أمنهم وتفكيك عصابات الجريمة المنظمة التي تعصف بالمدن والقرى ذات الأغلبية الفلسطينية. وحضر ذلك الاعتصام سياسيون وقادة مجتمعيون وأقارب من فقدوا حياتهم في أعمال العنف الإجرامية. وشارك آلاف الأشخاص في مسيرة صامتة في تل أبيب يوم الأحد في 6 آب/أغسطس الفائت، أطلق عليها اسم "مسيرة الأموات"، وحمل المتظاهرون خلالها العشرات من النعوش على أكتافهم تخليداً لذكرى الضحايا، وساروا -عائلات فلسطينية وناشطون ويهود يساريون وأعضاء منظمات المجتمع المدني، وذلك في احتجاج على تزايد عمليات القتل والابتزاز والاختطاف التي تنظمها عصابات الجريمة المنظمة في المدن والقرى ذات الأغلبية العربية. وفي 5 أيلول/سبتمبر الجاري، شمل الإضراب العام، الذي دعت إليه "لجنة المتابعة العليا"، رداً على استفحال دائرة الجريمة والعنف وتواطؤ الحكومة، البلدات والقرى العربية، فأغلقت المرافق العامة والمؤسسات الخدمية والمحال التجارية، ثم انضمت إليها المدارس. ويطالب ممثلو المواطنون العرب الحكومة الإسرائيلية باتخاذ إجراءات سريعة تهدف إلى تفكيك العصابات الإجرامية الناشطة في مجتمعهم، وجمع الأسلحة المنتشرة بينها، وتخصيص ميزانيات كبيرة لتحسين النظام التعليمي وتطوير أطر مكافحة العنف من خلال التعليم والتدريس[8].
دعوات إلى توحيد النضال وضمان استمراريته
تعليقاً على الإضراب العام في الخامس من الشهر الجاري، رأت صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، في كلمتها الافتتاحية، أن هذا الإضراب الذي "أعلنت عنه لجنة المتابعة العليا، وأكدت عليها مختلف مركباتها، اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، واللجنة القطرية لأولياء الأمور العرب، ولجنة متابعة قضايا التعليم العربي، والأحزاب السياسية"، يمثّل "خطوة مهمّة على درب استكمال بناء الردّ السياسي والشعبي المنهجي، أمام استفحال دائرة الجريمة والعنف في المجتمع العربي وسط تعمّق التواطؤ الحكومي، ومواصلة إغراق مجتمعنا في الرعب والدم"، وهو جزء "من تحرك نضالي لتعزيز حصانة المجتمع العربي"، و"حماية شريحة شباب هذا المجتمع التي تعاني من سياسة التمييز العنصري ونتائجه في سد أفق النمو والتطور، لتأتي وتستهدفها وتوقع بها عصابات الإجرام". وبعد أن شدّدت الصحيفة "على ضرورة مشاركة جميع مركبات المجتمع في النضال ضد إرهاب الجريمة، بما يشمل الأطفال والشبيبة والأهالي من أجل الحق بالعيش والأمان، وهنا يأتي دور كوادر المعلمات والمعلمين وسائر طواقم التربية، الذين نشدّ على أياديهم جميعاً"، عبّرت عن الأمل في أن يتطوّر هذا التحرك "الى انتفاضة شعبية من أجل الحياة ولتوجيه الأسهم إلى السلطة الإسرائيلية التي ترعى إرهاب الجريمة"[9].