على نحوٍ غير متوقّع، وربّما بقرار فقط من حركة حماس، يتمّ منذ أسبوع إعادة تنشيط «حراك المقاومة الشعبية السلمية»، على الحدود الشرقية لقطاع غزّة.
أحدث هذا القرار والنشاط قدراً من التحفُّظ لدى بعض الفصائل، والمعارضة من بعضها الآخر، وانتقادات من قبل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وربّما من قبل قطاعات شعبية واسعة.
بعض هذه الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي اتّخذ طابع السخرية مع الأسف، خصوصاً من قبل شباب غادروا قطاع غزة.
ويتمتّعون بقدرٍ من حرّية الكلام في الدول التي يتواجدون فيها.
معاودة هذا النشاط «المقاوم»، يذكّر الناس، بنتائج وحصاد «مسيرات العودة»، التي اندلعت بتوافقٍ شامل العام 2018، واستمرّت قرابة العامين، المحصّلة والثمن كانا كبيرين دون شكّ، فثمّة آلاف الشهداء والجرحى، الذين يصطدم ببعضهم في شوارع القطاع بين الحين والآخر.
يطرح هنا سؤال الجدوى، وهو سؤال لطالما كان مطروحاً، خلال المواجهات العسكرية، التي اندلعت بين جيش الاحتلال و»المقاومة» منذ العام 2006، إثر اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط حتى آخر جولة قبل أشهر قليلة.
ثمة فهم خاطئ وسطحي لعمل واستراتيجية «المقاومة» الفلسطينية في إطار صراعها مع الاحتلال الذي لا يتوقّف عن توظيف كلّ إمكاناته الوحشية لمصادرة الحقوق السياسية، وحتى وجود الشعب الفلسطيني على أرضه.
إذا كان هذا السؤال محقّاً فإنّه يمتدّ ليشمل المقاومة في الضفة الغربية، التي تأتي في سياق ردود الفعل على فعل إسرائيلي وحشي وعنصري يستهدف حسم الصراع في الضفة والقدس.
لا يمكن أن يكون معيار الانتصار أو تحقيق الإنجازات الملموسة، أساساً لمحاكمة وتقييم جدوى العمل المقاوم، ولا يمكن كذلك الاعتماد على معيار الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني.
المعيار الأساسي يستند إلى البعد الاستراتيجي ذلك أنّه لا خيار للشعب الفلسطيني دفاعاً عن أرضه وحقوقه ووجوده، سوى أن يتصدّى للاحتلال، دون انتظار أن تؤدّي هذه المقاومة فوراً لدحر الاحتلال وإرغامه على وقف سياساته وإجراءاته.
هذا الصراع، لا يُحسم بضربةٍ واحدة، وإنّما يُحسم بالتدريج، وتسجيل النقاط، وعَبر الإيمان بعدالة القضية وحتمية الانتصار وتحقيق الحرّية الكاملة لأصحاب الحقّ.
وبما أنّ الفلسطينيين يواجهون احتلالاً استثنائياً، لم تعرف له البشرية مثيلاً، وهو مسنود ومدعوم من قبل أعتى وأقوى قوى الشرّ، على مستوى العالم، فإنّه سيكون صراعاً مكلفاً وباهظ الثمن.
يرتّب ذلك قناعة لا بدّ أن تترسّخ في الوعي الفلسطيني الشعبي والسياسي والفصائلي بأنّ الكفاح السلمي وحده لا يمكن له أن يحقّق الانتصار ويحرز التحرّر الوطني.
لقد اشتكى الرئيس محمود عباس مراراً وأخيراً في خطابه أمام المجتمع الدولي، حين قال مستنكراً إنّ الأمم المتحدة أصدرت أكثر من ألف قرار، في الشأن الفلسطيني، لكنّها لم تفلح في تنفيذ قرارٍ واحد، وهي بما هي عليه لن تفلح في تنفيذ أيّ قرارٍ طالما أنّ الولايات المتحدة على رأس النظام الدولي.
عودة إلى «النشاط المقاوم» على الحدود الشرقية لقطاع غزة، ثمة من يُحيل الأسباب إلى تذمّر حركة حماس إزاء خلافها مع السفير القطري محمد العمادي بشأن الأموال المخصّصة لتغطية رواتب موظفي حكومة غزّة، وأنّ ذلك يشكّل دليلاً على أنّ «حماس» تقدّم المال والتسهيلات على السياسة والكفاح.
في الحقيقة، تقصر الماكينة السياسية والإعلامية التي تمتلكها «حماس» عن أن تشرح الحقائق، وتبيّن الدوافع والأهداف التي تقف خلف قرارها بـ «معاودة النشاط» شرق القطاع، ما يسمح لنا ولغيرنا بالاستنتاج، أوّلاً، هذه العودة إلى الحدود تختلف عن «مسيرات العودة» التي اندلعت إبّان اعتماد الولايات المتحدة «صفقة القرن»، وكانت تلك «المسيرات» تؤكّد تمسّك الشعب الفلسطيني بحق العودة، وتأكيد ارتباط غزة بالنضال الفلسطيني العام في الضفة الغربية وغيرها.
بقي من شعار «مسيرات العودة» السابقة شعار رفع الحصار وهو شعار لم يتحقّق حتى الآن، فالحصار ليس إسرائيلياً فقط، وإنّما يتّخذ أبعاداً إقليمية ودولية، يزيد في ظلمه ما ينجم عن استمرار الانقسام الفلسطيني.
«حماس» تريد فرض معادلة جديدة تفصل بين التسهيلات الإسرائيلية وغيرها وبين دورها في إطار الصراع المحتدم بمعنى أنّ التسهيلات حقّ وأنها ينبغي أن تستمر كأمرٍ واقع، بصرف النظر عن ممارسة أيّ شكلٍ من أشكال «المقاومة».
ويعكس معاودة النشاط على الحدود الشرقية للقطاع، رسالة تحدٍ استكمالاً لرسائل سابقة، وذلك من واقع إدراكها أنّ إسرائيل المأزومة، لا ترغب في تفجير الأوضاع، ولا تستطيع الاستفراد بقطاع غزة، وأنّها لو أقدمت على ذلك، فإنّ أزمتها ستتعمّق أكثر فأكثر.
النشاط على الحدود يتّخذ طابعاً خشناً، حيث تستخدم «البالونات الحارقة» والمتفجّرات، وأحياناً الرصاص، لكن إسرائيل تردّ بالقدر الذي لا يرقى إلى مستوى تفجير الأوضاع.
بعد أن قال أرئيل شارون إن أمن «نتساريم» مثل أمن «تل أبيب» ثم دمّر مستوطنات.
نتذكّر ما قاله بنيامين نتنياهو من أن كل «بالون» سيتمّ الردّ عليه وكأنّه صاروخ، وأن أمن «غلاف غزّة» مثل أمن «تل أبيب»، لكن ذلك لا يغطي ضعفه وخوفه من المواجهة التي قد تكون شاملة.