كيفَ فضحَ نتنياهو نفسه؟!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

 


واضحٌ أنّ بنيامين نتنياهو لم يعد بتلك الأهمية التي كان عليها، وواضحٌ أنّ خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام قاعةٍ شبه فارغة لم يكن يعكس سوى تضاؤل هذه الأهمية بالذات، هذا إذا استثنينا أنّ الإدارة الأميركية قد ساهمت بصورةٍ مباشرة ومقصودة بالتقليل من شأن هذه الأهمية من خلال رفضها لاستقباله بصورةٍ رسمية على مدى زمني ليس معهوداً على الإطلاق في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية كلّها.
في إسرائيل يُدير نتنياهو «حملة» من التطبيل والتزمير حول «التطبيع» مع المملكة العربية السعودية، وذلك اعتقاداً منه أنّها ــ أي مسألة «التطبيع» ــ ستكون خشبة الخلاص الوحيدة، بكل ما في هذا الوصف من معنى، وذلك بالنظر إلى الوقائع والأزمات التي تعيشها إسرائيل، وبالنظر إلى دور نتنياهو تحديداً وتخصيصاً في هذه الأزمات، وبالنظر، أيضاً، إلى قناعات متزايدة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه من أنّ الرجل يشارف على نهاية حياته السياسية، وقد لا تكون هذه النهاية مجرّد الذهاب إلى التقاعد السياسي، إذا لا يمكن استثناء، أو استبعاد أن تكون أسوأ من ذلك بكثير.
لن يتمكّن نتنياهو من حلّ أزماته داخل «حزب الليكود»، وداخل «الائتلاف»، ومع «المعارضة» في الشارع من خلال افتعال حربٍ في منطقة الإقليم هو نفسه أكثر من يخشاها، ولن يكون بإمكانه «الاستناد» إلى طرد أعوانه من تيّار «الكهانية»، أو الكهناتية السياسية في إسرائيل، لأنّه لم يعد على ما يبدو من هو مستعد لدخول حكومة برئاسته، بمن في ذلك بيني غانتس نفسه، خصوصاً وأنّ هذه المسألة بالذات تلقى معارضة داخل حزب غانتس، وهو ــ أي نتنياهو ــ مطوّق بحبال التيار الفاشي حول رقبته، وبإمكان هذا التيّار أن يشدّ الحبل عليها عند «الضرورة»، وهذه الضرورة قد تنشأ في أيّ لحظة، لأنّ هذا التيّار، و»اليمين الجديد»، كلّه يعي بعمق فرصه السانحة اليوم، والتي قد لا تكون متاحة في المستقبل، وبالتالي فإنّ هذا التيّار يلعب مع نتنياهو لعبة خطرة، وهي (يا قاتل، يا مقتول)، ونتنياهو يعرف هذه الحقيقة، بل هو بالذات، وقبل أيّ أحدٍ آخر من يعرف ويدرك أكثر، وقَبِلَ الجميع نتائجها.
إذاً فإنّ نتنياهو «مردوع» من الحرب، و»مردوع» من «الليكود»، و»مردوع» من «المعارضة»، و»مردوع» من «الائتلاف»، و»مردوع» من بعض دول العالم إلى حدٍّ ما، بما في ذلك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
عندما «منحه» الرئيس السابق دونالد ترامب، «الاتفاقيات الإبراهيمية»، وأغدق عليه بالاعتراف له بـ «القدس عاصمة موحّدة» لإسرائيل، وزاد من نعيمه عليه بحصار منظمة التحرير الفلسطينية، وأغلق مكاتبها، وحرّض «الغرب» كلّه عليها، وسحب مساعدته عن «الأونروا»، وانسحب من تمويل منظمات الأمم المتحدة عقاباً لها على وقوفها مع الحق والقانون الدولي حول بعض قضايا حقوق الشعب الفلسطيني.. عندما قام ترامب بكلّ ذلك، بما في ذلك «هديّة» الجولان السوري.. كان نتنياهو يبدو رادعاً، وليس مردوعاً، وكان يتصرّف كملك متوّج، وليس كمأزوم ومهزوم، وكان يُستقبل في الكونغرس الأميركي كـ «فاتح» ومنتصر، وليس كما هو اليوم، كمُستَجْدٍ لمجرّد مقابلة بايدن، ولا يجد حتّى الآن من يتضامن معه، ومن يُهدّئ من روعه باستثناء بعض الأصوات التي لم تعد تجاهر كما كانت تجاهر، أو تنادي بأعلى صوتها كما كانت تنادي.
كان يدّعي أنه سيضمن لدولة الإمارات وللبحرين الأمن والأمان، وأنّه هو الوحيد الذي «سيضع» حداً «للتهديد» الإيراني، وكان يدّعي أنّه هو الوحيد الذي يملك القدرات الأمنية والدفاعية التي تحتاجها بلدان الخليج في وجه «التهديدات» الإيرانية، وكان يعتقد أنّ إسرائيل هي الوحيدة التي تستطيع أن تقدّم لهذه البلدان التكنولوجيا العالية التي من خلال اندماجها بالرساميل الخليجية ستحدث المعجزات الاقتصادية.
تبيّن الآن أنّ هذه الأوهام، حتى كأوهامٍ لم تعد قائمة.
«ارتدعت» إيران، بمجرد تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية، ولم يعد هناك أي حاجة لرادعٍ خارجي، والحرب في اليمن تضع أوزارها، و»ارتدع» الخليج العربي عن المضيّ قدماً بها دون رادعٍ خارجي، ولم تعد الولايات المتحدة «وليّ نعمة» بلدان الخليج، إذا لم نقل إن الخليج العربي هو الأقرب أن يكون وليّ نعمة «الغرب»، على الأقلّ في مسائل الطاقة التي تتفاقم أزماتها على «الغرب» كله، بل وحتى السلاح نفسه لم يعد توريده لبلدان الخليج العربية بالشروط الأميركية الإسرائيلية، وأصبح هذا التوريد مشروطاً من بعض هذه البلدان، بما في ذلك التقنية النووية في المستقبل..!
نتنياهو يفضح نفسه لأنّه يعرف أنّ وضعه في هذه المعادلة قد تغيّر كثيراً وجذرياً. وهو لم يعد المطلوب الأوّل في معادلة «التطبيع»، بل إنّه الثالث في هذه المعادلة.
ليس هذا فقط، وإنّما أنّ الولايات المتحدة نفسها تحتاج العربية السعودية بالذات في هذه المرحلة، وقبل أن يصبح بايدن «بطةً عرجاء» في ربيع العام القادم على أبعد حدّ.
ونتنياهو يدرك أنّه يحتاج العربية السعودية لـ «التطبيع» قبل أن تسقط الحكومة الإسرائيلية، وقبل أن تنفجر في وجهه معركة محكمة العدل العليا، وقبل أن يدخل المجتمع الإسرائيلي في أزمةٍ سياسية على درجةٍ أعلى من الأزمة الحالية، وذلك عندما تتحوّل في شقٍّ كبير منها إلى أزمةٍ دستورية، حيث يتحوّل الأمر في حينه إلى استقطاب «وجودي» للأطراف المتصارعة.
لذلك هو يفضح أمره وأمر الإدارة الأميركية عندما يتحدّث عن «عدّة» شهور، أو عند موعدٍ قد لا يتجاوز الربيع القادم.
نعم بالضبط، الأمر كلّه مفضوح، تماماً و»الفضيحة» السياسية مفضوحة بالكامل، وقد يتبرّع نتنياهو بنفسه لكي يشرف هو بنفسه عليها.
الدليل القاطع على أنّ نتنياهو قد فضح «الطابق كلّه» كما يُقال جاء على لسان نتنياهو نفسه.
ففي معرض إسهابه لأهمية «التطبيع»، وأهمية الاستقرار والازدهار، وحتى الرخاء، وكيف أنّه سيغيّر وجه التاريخ في الشرق الأوسط كلّه.. أردف، أو استدرك نتنياهو بالقول: (إذا لم يتحقّق «التطبيع» في الأشهر القليلة القادمة فإنّه سيتأخّر لعدّة سنوات قادمة).
هنا بيت القصيد، وهنا قدّم لنا نتنياهو ما يضمره، وما يهدف إليه، وما تحتاجه الولايات المتحدة، خلال الأشهر القليلة، وليس بعد عدّة سنوات.
إدارة بايدن تراهن على أن يحسّن اتفاق لـ»التطبيع» مع العربية السعودية من وضع الإدارة المزري حتى ولو أنّ مراهنة من هذا النوع ليست مضمونة النتائج، ونتنياهو يراهن على أن يُخرجه مثل هذا الاتفاق لـ «التطبيع» من الأزمة لأنّه لا يملك أيّ ورقة أخرى على الإطلاق، وذلك لأنّه يعتقد ويوقن ــ وقد يكون على حقّ في هذه النقطة ــ بأنّ هذا «التطبيع» بالذات هو فرصته الوحيدة لإعادة خلط الأوراق السياسية كلّها في إسرائيل.
وإذا كان لأحدٍ أن يتحدّث عن فرصٍ حقيقية فهو الأمير محمد بن سلمان، وليس بايدن، ولا نتنياهو، لأنّه يستطيع أن يحصل على كلّ ما يريد من ضمانات أمنية، ومن تقنيات نووية، ومن إعادة الاعتبار لحلٍّ سياسي مقبول ومتوازن للصراع في الشرق الأوسط، إذا رغبت الأطراف الأخرى بدفع الثمن المطلوب لهذا الحلّ، والعربية السعودية بذلك، وبذلك فقط تضمن دورها الإقليمي الفعّال في المحيط العربي والإقليمي، وتضمن دورها الدولي الذي لم يعد أحدٌ في هذا العالم يشكّ في كونه قادماً بسرعة.
أمّا إذا تعذّر ذلك بسبب عدم جاهزية إسرائيل والولايات المتحدة لدفع هذا الثمن، فستكون العربية السعودية قد فازت على كلّ حالٍ بمثل هذا الدور دون عوائق تُذكر، وتكون لديها شرعية البحث عن البدائل التي تلبّي وتستجيب لمصالحها الوطنية، وهي بدائل جاهزة على كل صعيد.