من القليلين جدّاً الذين رأوا إمكانية لإعادة الحياة لمشروع أوسلو، هو الدبلوماسي الأميركي الشهير مارتن إنديك.
ما يدعوني إلى أن آخذ رؤيته بصورة جدّية هو أنّ للرجل باعاً طويلاً في السياسات الأميركية تجاه المسار الفلسطيني الإسرائيلي تحديداً، إضافة إلى مهامّه الرسمية، وكلّها مهمّ ومؤثّر، ومواكبته لما يجري من خارج هذه المهامّ وضعته في مصافّ الخبراء الذين يُعتدّ بتحليلهم واستخلاصاتهم.
إذاً هو صاحب نظرية إمكانية إحياء أوسلو بعد خروج الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من المشهد.
شيء كهذا جرى تداوله زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس حكومة إسرائيل الأسبق آرييل شارون (2001-2006)، مع تركيز استثنائي على عرفات، الذي صُوّر خروجه من المشهد كما لو أنّه الإنقاذ الأكيد لمشروع أوسلو. وبعدما خرج بسبب الوفاة، وحلّ مهندس أوسلو محلّه، تدهورت الأمور بصورة أكثر تسارعاً، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من حرب ساخنة تجري في ظلّ حطام أوسلو.
في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، كلّ شيء ممكن وكلّ شيء مستحيل. وبين الممكن والمستحيل هوامش تصنعها أحياناً تطوّرات لا دخل لأيّ من الطرفين فيها، مثل عملية مدريد التي أنتجتها حرب الخليج، والجهد الدولي الذي قادته الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي المحتضِر وبمشاركة تكاد تكون شاملة من العالم كلّه.
نتجت اتفاقية أوسلو عن مفاوضات مدريد، التي أظهرت أنّ التسوية بين الطرفين تكاد تكون مستحيلة، فبدت أوسلو كما لو أنّها الوصفة الأخيرة للحلّ. ذلك أنّ كلّ الذين تبنّوا مدريد وشاركوا فيها انتقلوا إلى تبنّي أوسلو والإنفاق عليها، وهو ما جعل من تخيّل الفشل بحدّ ذاته أمراً مخالفاً للمنطق.
حارس أوسلو... مهندسها
لا أحد ينكر دور الأفراد في صنع السياسات وحتى المصائر. وما كان لمدريد أن تفشل، لولا تعهّد رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير بذلك (1983-1984 و1986-1992). وما كان لها أن تنعقد لولا موافقة عرفات على ذلك. غير أنّ هذا لا يُعتبر قانوناً، ذلك أنّ الفشل تمّ بينما تناوب على السلطة في أميركا وإسرائيل وفلسطين رجال أقوياء، وبُذلت من أجل النجاح جهود هائلة وإنفاق سخيّ، فذهب الأقوياء كلّ في سبيله، وبقي الفشل والتدهور عصيَّين على أن ينتجا نجاحاً.
لم تمُت أوسلو بمعنى الانقراض النهائي، فما تزال آثارها المادّية قائمة بجزء كبير منها، وأهمّ ما بقي من أوسلو السلطة الفلسطينية، وإن كانت لا تصل إلى ما هو قريب من الدولة، إلا أنّها ما تزال قائمة تدير شؤون الواقعين تحت سيطرتها، بعدما كانت منظمة التحرير تدير بعض شؤونهم عن بعد. وبقي من أوسلو مهندسها الفلسطيني محمود عباس، الذي لا يتردّد في اعتبار نفسه حارساً على ما بقي منها، يحدوه أمل بأن يعثر على ترياق ينقذها من الانهيار والانقراض.
بقي أيضاً من أوسلو ما يقارب مليون فلسطيني عادوا إلى الديار، ومن دونها ما كان ممكناً عودة العشرات. وبقي من أوسلو التنسيق الأمني ولو من طرف واحد، كدلالة على أنّ فيها بعض نبض يبقيها على قيد الحياة. وذلك لا يعني أنّ في الأمر قدراً من توازن بين الربح والخسارة، فالربح بمقياس أوسلو قليل إذا ما قورن مع الخسارة التي دفعها الفلسطينيون من خلال غياب الأفق السياسي الذي من أجله ذهب الثوّار إلى مدريد ثمّ أوسلو وإلى كلّ الفعّاليات الأخرى في السياق ذاته.
نتانياهو في طريقه إلى مغادرة موقعه أو تراجع نفوذه في صنع السياسات والقرارات، وهذا أمر طبيعي ومتوقّع. وعبّاس لن يكون مخلّداً، ففي حضوره، وهو المهندس وصاحب القرار الفلسطيني، تسارع انهيار المشروع، وفي غيابه سيكون المؤكّد الوحيد هو الغموض والانفتاح على الفوضى، والابتعاد أكثر عن حلّ تفاوضي. ليس فقط بفعل وجود حكومة في إسرائيل لا تؤمن بالسلام مع الفلسطينيين، وإنّما بفعل غياب ما كان فعّالاً زمن مدريد وأوسلو، وهو الأولوية الدولية للمشروع، ووجود الكبار من كلّ الأطراف الذين كان بمقدورهم اتّخاذ قرارات مهمّة.
بالنسبة للفلسطينيين كانت لديهم مؤسّسة قرار هي النظام السياسي، "نظام منظمة التحرير"، الذي استطاع دخول لعبة التسوية، بما تطلّبت من قرارات صعبة، ولولا النظام السياسي القوي، بمؤسّساته وشرعيّته، لما جرؤ عرفات على مصافحة رابين وهو يسيطر على كلّ الضفة وغزّة.
بعد نتانياهو وعباس
في حال غياب عباس سيكون الوضع أكثر صعوبة.. فمن يعلّق الجرس؟ هذا إذا وُجد جرس أصلاً.
أمّا في حال غياب نتانياهو فلننظر إلى الحدّ الأدنى الذي يتوافق عليه الإسرائيليون لنرى هل يتضمّن دولة حقيقية للفلسطينيين؟ أم كياناً مفرغاً من السيادة والحرّية والاستقلال؟
نحن الآن في حالة حرب تجري تحت ركام أوسلو، وإذا كان من غير الممكن البدء من الصفر في محاولة جديدة، فمن غير الممكن أيضاً أن يُنتج الركام بناءً.
في السياسة من غير المستحَبّ القول إنّ أقرب مسافة بين نقطتين هي الخطّ المستقيم، ومع الفشل المزمن الذي ابتُلي به المسار الفلسطيني الإسرائيلي، فلا مناصّ من خطّ مستقيم يتبنّاه العالم بجدّية أكثر، ويعمل عليه. وهو الحلّ الذي يرضي الفلسطينيين ويقنعهم، وهذا الحلّ موجود في قرارات الشرعية الدولية، والمبادرة العربية للسلام.
يبدو الأمر صعباً، لكن من دونه يتحوّل الصعب إلى مستحيل.