يتكثف الحديث عن التطبيع، وتبقى الأحجية الأكبر للمنطقة عن التطبيع السعودي مع إسرائيل.
ورغم أن لا أحجيات في السياسة لكن التقارير والتصريحات تأخذ بعداً مدعاة لاستمرار البحث، فقد امتد الحديث فيه لسنوات طويلة منذ اتفاقيات ترامب قبل ثلاث سنوات بين أربع دول عربية وإسرائيل كان بنيامين نتنياهو خلالها يوقع الاتفاقيات مركزاً نظره على الدولة المركزية السعودية الجائزة الأكبر.
تتضارب الأنباء والتصريحات والفعل أيضاً لتزيد المسألة غموضاً، وما بين الرغبة وبين الواقع النظري في لحظة ما تبدو الأمور تسير كما تريد أطرافها وفي لحظة ما تبدو الأمور أكثر استعصاء.
فمنطق السياسة وتحولاتها سواء على صعيد المملكة وتزايد ممكنات قوتها وعلى الجانب الآخر حكومة شديدة التطرف في إسرائيل تبدو الأمور متباعدة وخصوصاً لدولة بحجم السعودية تسعى بكل قوتها لامتلاك السلاح «القوة الخشنة»؟، ولكن لا أحد يعتقد أنها من السذاجة ستضحي مقابله بالقوة «الناعمة» والتي تجسدها القضية الفلسطينية حتى وإن بلغت ذروة ضعفها.
المؤشرات أيضاً متناقضة تماماً كما حملها تفسير تعيين المملكة لسفير في فلسطين، قد فسرها البعض خطوة على طريق التطبيع حيث مرور السفير من البوابة الإسرائيلية والبعض يفسرها كرسالة سعودية لإسرائيل والولايات المتحدة بتمسك الرياض بالقضية الفلسطينية وأنها تحظى بالأولوية في السياسة الخارجية للمملكة وخصوصاً أن السعودية هي صاحبة المبادرة العربية.
السعودية ليست ضد التطبيع من حيث المبدأ فقد كانت قد أعلنت ذلك قبل أن تحلم به إسرائيل منذ عقدين من خلال المبادرة العربية التي يقوم جوهرها على «التطبيع مقابل الانسحاب».
ولكن الأساس الذي طرحته السعودية هو «الثمن» ولأن العرض السعودي كان سخياً كان الثمن كبيراً وهو ما لم تتعاطَ معه حكومة شارون ولا أي حكومة بعدها بجدية.
ومنطق الأشياء أن مياهاً كثيرة جرت في نهر التوازنات رفعت ثمن «مهر» السعودية وهو ما نراه في مطالبها بمفاعل نووي واتفاق دفاعي استراتيجي، ولا أحد يظن أن هذا جاء بديلاً عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية وهو ما قاله السفير نايف السديري وقبله وزير الخارجية فيصل بن فرحان بتأكيدهما على الحقوق الفلسطينية.
لكن المقابلة التي أجراها ولي العهد السعودي قبل أسبوعين مع فوكس نيوز أحدثت قدراً من البلبلة لدى المراقبين خصوصاً حين جاء الحديث عن تحسين حياة الفلسطينيين وإن تحدث قبلها عن أهمية القضية الفلسطينية، فهل كان يقصد تحسين الحياة في إطار دولة وانتهاء الاحتلال أم تحسيناً اقتصادياً كما يريد نتنياهو ؟
ومؤشرات أخرى سبقت المسألة، فتح المجال الحيوي السعودي للطيران الإسرائيلي وزيارة وزير السياحة الإسرائيلي الأسبوع الماضي للرياض وهي أول زيارة علنية لوزير إسرائيلي ستتبعها هذا الأسبوع زيارة وزير الاتصالات إلى هناك، تلك باتت تشي بتغير ما بعد أن رفضت مطلع الشهر الماضي إصدار تأشيرات لوزيرين إسرائيليين الخارجية والتعليم وسط عاصفة لقاء وزيرة الخارجية الليبية بالوزير الإسرائيلي كوهين في روما.
الحديث عن اتفاق هو مخالف لحقائق الواقع رغم تشكل مؤشرات هذا الاتفاق.
فما زال هناك خلاف في إسرائيل بين المستويين العسكري الأمني والمستوى السياسي على الموافقة إذ إن الجهة السياسية ممثلة بنتنياهو هي فقط التي توافق مقابل اعتراض المؤسسة العسكرية.
وفي هذا الملف لا تكفي موافقة السياسة لتمرير الأمر فالكلمة الفصل للجيش والأمن لإعطاء ضوء أخضر لإنشاء مفاعل نووي في السعودية، ليس فقط لجهة الرقابة والاقتراحات المقدمة بأن يقام في السعودية على أرض أميركية بالكامل وأن يتم استخدام وسائل الذكاء الاصطناعي للرقابة وبإدارة أميركية وأن يتم بناؤه فوق الأرض لسهولة قصفه إذا ما حدث تغير سياسي.
كل هذا ممكن التغلب عليه لكن العقدة الأكبر هي أن الموافقة الإسرائيلية تجرد تل أبيب من مبرر موقفها لامتلاك إيران للقدرة والمفاعلات النووية.
وفي نفس السياق قد يفتح مفاعل نووي سعودي شهية الدول التي ستصطف بعدها للمطالبة بتقليد السعودية ومنها مصر وتركيا والإمارات.
ولن يكون هناك أي مبرر لرفض طلباتها ما يفتح سباقاً نووياً في المنطقة في حين حرصت إسرائيل لعقود وما زالت على أن تكون القوة النووية الوحيدة في المنطقة، وعكس ذلك يعني انهياراً للسياسة الإسرائيلية التي قامت على عنصرين، منع إيران امتلاك الطاقة النووية وتفرد
إسرائيل بها في المنطقة حفاظاً على التفوق.
وبالمقابل هل يمكن للسعودية أن تلقي بالقضية الفلسطينية خلف ظهرها وتقبل بوعودات من نتنياهو كان قد خدع بها من ذهبوا لاتفاقيات سابقة ؟
فهذا يتعارض مع دولة تعتبر نفسها قلب العالم الإسلامي ومرجعه الديني، بل وتسعى لمراكمة مزيد من ممكنات القوة الناعمة في طريقها كدولة كبرى ومثال شراء لاعبين رياضيين يقول إنها تبحث عن تلك القوة وتسعى لامتلاكها بأي ثمن وهنا تبدو القضية الفلسطينية قلب تلك القوة.
ضبابية في الرؤية ما بين مؤشرات قوية على مسار التطبيع وحديث إسرائيلي وأميركي قوي وسعودي خافت وزيارات لا يمكن تجاهلها، وبالمقابل هناك استعصاءات كبيرة وتطمينات سعودية للفلسطينيين، وفوق كل ذلك هناك سياسة سعودية تشهد انفتاح علاقاتها وتعدد مصادر ما يمكن أن تحصل عليه دون أن تضطر للتضحية بشيء من حضورها.
فقد باتت على علاقة مع الصين المستعدة لتزويدها بكل ما تطلب من البيت الأبيض ومع روسيا وإيران التي قامت الرياض بتبريد خلافاتها معها وباتت طهران تعرض خدماتها النووية.
وما بين المنطق المجرد ومنطق المصالح هناك ما يشكك في مسار هذا الملف ويزيد من غموضه إذ باتت تتساوى دوافعه مع موانعه، منذ سنوات يجري الحديث عن التطبيع لكن هناك مؤشرات أخيرة مدعاة للتساؤل فلسطينياً ينبغي مراقبتها وقراءة سياقاتها.