بعيداً عن غوغاء الإعلام «الغربي»، فقد شهدنا في الأيام والأسابيع القليلة الماضية كماً كبيراً من المستجدّات الخطيرة في الحرب التي تدور في أوكرانيا.
أوّل هذه المستجدّات، وليس أخطرها هو الحديث المتواتر عن قرب رحيل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والسأم الذي بدأ يصيب الغرب من سلوكه غير المنطقيّ، وغير السويّ في التعامل مع النتائج الكارثية التي أعقبت الفشل الذريع للهجوم المضادّ، والذي لم يجلب على أوكرانيا، وعلى الغرب سوى الفشل الميداني الفاضح.
وسرّبت الصحافة الغربية امتعاض القيادات العسكرية الأميركية والبريطانية من هذا السلوك، وخصوصاً إصرار زيلينسكي على مواصلة الهجوم على مناطق فارغة، أو شبه فارغة في منطقة «باخموت»، لكي يثبت عدم فشل الهجوم المضادّ، ولكي يبرّر للغرب المزيد من طلبات الأسلحة، وكأنّ هذا الغرب يحتاج له لتزويد أوكرانيا بأسلحة جديدة.
وثاني هذه المستجدّات، وهو من أخطرها، أنّ قيادات عسكرية ضالعة وضليعة «غربية»، ولا يُشكّ في ولائها للمؤسّسات العسكرية الأميركية، أصبحت تتحدّث عن الحرب بلغةٍ جديدة، وصل بالبعض، بالإعراب عن خشيتهم من أنّ النتيجة الحتمية لهذه الحرب، طالت أم قصرت، ستكون إمّا الدمار الشامل، أو اختفاء أوكرانيا عن الجغرافيا السياسية.
وارتباطاً بهذا المستجدّ بالذات وهو ثالثها، بدأت دوائر أمنية وسياسية في الغرب تتحدّث، صراحةً أو مواربةً عن أطماع بولندية في مناطق كبيرة من الغرب الأوكراني، وأنّ مسألة «الحبوب الأوكرانية» ليست سوى «الذريعة» التي تستخدمها بولندا للتغطية على تلك الأطماع، بعد أن أدركت ــ أي بولندا ــ أنّ نتائج هذه الحرب قد «حُسِمَت»، بصرف النظر عمّا تبقّى منها، وبصرف النظر عن تكاليفها الباهظة، لا سيّما أنّ النظام الحالي في بولندا أخذ يفقد «مواقعه» في الخارطة السياسية البولندية، أمام الأحزاب الأكثر «يمينية وشعبوية»، والتي شرعت في حرب سياسية وإعلامية «كاسحة» ضدّ المهاجرين الأوكران، الذين «أخذوا» حصّة اليد العاملة البولندية، وكيف أنّ «القمح» الأوكراني بات يُلحِق بالفلّاحين والتجّار البولنديين خسائر تفوق طاقتهم على التحمُّل.
وقد بدأت «البشائر» تهلُّ على البولنديين من الانتخابات المجاورة، إذ بات يُعتقد أنّ الأحزاب «اليمينية» المناهضة للحرب في أوكرانيا، والمعارضة لاستمرار الدعم العسكري لنظام زيلينسكي سوف تفوز بالانتخابات في معظم دول الجوار، ليس هذا فقط، وإنّما بات يُقلق النظام البولندي، وهو النظام الذي سخّر كلّ بولندا لدعم نظام «كييف»، وهو الأكثر حماسةً لإذكاء الصراع مع روسيا قد بدأ «يشتمّ» كيف أنّ دولة المجر، والتي نأت بنفسها قليلاً، وأحياناً، كثيراً عن أن تكون «عبداً طيّعاً» في يد الولايات المتحدة، وفي يد «الغرب» قد عقدت صفقةً تاريخية جديدة مع الصين لبناء أكبر مصنع للسيّارات الكهربائية في أوروبا، قبل أن تتمكّن ألمانيا من «التحوُّل» إلى نظام «الكهرباء» الكاملة في صناعة السيّارات، والتي ما زالت تتأخّر في هذا المضمار، بل وربما أنّها لن تلحق بالصين مطلقاً بعد هذه الصفقة.
ورابع هذه المستجدّات أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «ألمح» للشعب البولندي بأنّ الغرب قد يضحّي ببولندا نفسها، وأنّهم إذا لم ينتبهوا لما يحيط بهم فقد يجدون أنفسهم في العراء، وليس لديهم «ستالين» جديد ليعيد لهم بناء بلدهم!
وخامس هذه المستجدّات أنّ أوساطاً شعبية متزايدة بدأت تشتمّ رائحة «خيانة» النُّخب الليبرالية الحاكمة في بعض بلدان أوروبا «الغربية» مثل ألمانيا وفرنسا. إذ أصبح واضحاً أن ألمانيا لا تريد أن يستمر التحقيق في تحديد الجهة المسؤولة عن «تفجير» أنابيب «ستريم -1»، و»ستريم -2»، لأنّ من شأن المضيّ قدماً في هذا التحقيق الذي كشفته الصحافة الأميركية سيكشف عن تواطؤ القيادة الألمانية مع الولايات المتحدة، أو مع مخابرات نظام «كييف»، لمصلحة الحرب واستمرارها، وعلى حساب الشعب الألماني الذي بنى أعظم اقتصاد «غربي» خارج الولايات المتحدة بمساعدة الأسعار التفضيلية التي كانت تتحصل عليها ألمانيا من النفط الروسي الرخيص.
وكيف أنّ هذا النفط الرخيص بالذات قد تمّ «تدميره» من قبل الولايات المتحدة ودُميتها في كييف دون أن تنطق ألمانيا بحرفٍ واحد!
أمّا فرنسا فإنّ قيادتها في وضعٍ ليس أقلّ حرجاً من القيادة الألمانية، حيث لم تسمع فرنسا في الوقوف ضدّ «الانقلابات» الإفريقية الأخيرة سوى بيانات الشجب والاستنكار الأميركية، وعلى ما يبدو فهمت فرنسا أنّ الحلّ الوحيد أمامها بات «المداراة» على «فضيحتها» في إفريقيا، بعد أن فهمت أنّ الولايات المتحدة لا تهمّها المصالح الفرنسية، ولا أيّ أحد في هذا العالم، وأنّها تطمح ربما إلى «الحلول» محلّ فرنسا في إفريقيا، وليس أبداً الحفاظ على مصالح فرنسا هناك.
أقصد أنّ الولايات المتحدة باعت المصالح الألمانية بأبخس الأثمان بعلم ومعرفة القيادات الألمانية، وباعت المصالح الفرنسية بأبخس وأخسّ الوسائل بسكوت القيادات الفرنسية، وتتابع التحريض على استمرار الحرب في أوكرانيا حتى ولو تعرّضت أوروبا لكلّ الأخطار والأهوال، وبصرف النظر عن حالة «المقامرة» التي تجد أوروبا نفسها بها جرّاء انصياعها للولايات المتحدة، وسيأتي يوم وهو قريب جداً لمحاسبة القيادات الأوروبية على هذه «الخيانات» بالنسبة لقطاعات شعبية واسعة، خصوصاً أنّ هذه الأوساط تُعاني كثيراً جرّاء الأزمات المتلاحقة في أوروبا.
وأمّا المستجدّ السادس فهو أنّ أوساطاً «غربية» بدأت تُعلن عن خشيتها من أنّ روسيا قد غيّرت استراتيجيتها في الحرب، وأنّها ربما تكون قد اتخذت قراراً بإطالة الحرب لاستنزاف «الغرب»، بدلاً من أن يستنزفها الغرب (وهنا أعتزّ بأنني قد كتبت عن هذا الأمر قبل عدّة شهور، حيث كنت أرى وما زلت أنّ روسيا أخطأت التقديرات في بدايات هذه الحرب)، وهو الأمر الذي يعني أن لا مصلحة لروسيا في وقف الحرب الآن، كلّ المؤشّرات تعمل لصالح روسيا وبالضدّ من المصالح «الغربية».
وقعنا نحن الذين رأينا أنّ الحق هو في الجانب الروسي في نفس سوء التقدير تبعاً لسوء تقدير روسيا آنذاك!، لكن الأمور الآن بدأت تتّضح أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
فقد أعلنت القيادة الروسية أنّ الأمور «الآن» ليست مواتية للمفاوضات، ثم أعلنت عن حملة «تعبئة جديدة» لأكثر من 100,000 جندي جديد، وأدخلت وزارة الدفاع أسلحةً جديدة ومتطوّرة جدّاً إلى جبهات القتال، كما قامت بتزويد منطقة «كالينيغراد» بصواريخ عالية الدقّة، مُجنّحة مُحمّلة على طائرات حربية في أقرب نقطةٍ على كامل منطقة «البلطيق».
وأعلن ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي أنّ روسيا ربما ستكون مضطرّة للتموضع في مواقع جديدة من أوكرانيا إذا واصل الغرب تزويد نظام كييف بأسلحة قد تطال العمق الروسي.
باختصار، الحديث عن اختفاء أوكرانيا، دماراً أو اقتطاعاً لم يعد من سيناريوهات الخيال العلمي على الإطلاق.
بل إنّ الواقع الحقيقي الوحيد الذي بات مُرجّحاً هو، إمّا الهرولة السريعة إلى طاولة المفاوضات بإقرارٍ مسبق بحقّ روسيا في تأمين وجودها وأمنها القومي، أو أن يدفع «الغرب» كلّه أثمان هذه الحرب التي أعدّ لها الغرب ضدّ روسيا أضعافاً مضاعفة.
الغرب بات يعرف هذه الحقيقة، والمسألة لم تعد أكثر من الوقت، أو الفترة التي ستمرّ قبل أن يجلس إلى تلك الطاولة صاغراً.