يوم السبت 6 تشرين الأول عام 1973 فاجأ العرب إسرائيل باجتياز خطّ "بارليف" محدثين المفاجأة والصدمة والانتصار في يوم تاريخي لم يكن أحد يتوقّع فيه أن يتمكّن الجيشان المصري والسوري من ردّ آثار هزيمة 1967.
يوم السبت 7 تشرين الأول عام 2023 فاجأ الفلسطينيون إسرائيل والعالم باجتيازهم خطّ "غزّة" محدثين المفاجأة أيضاً والهلع داخل المستوطنات التي تحدّ القطاع المحاصّر محقّقين انتصاراً واضحاً وصفته إحدى وسائل الإعلام الإسرائيلية بالقول: "حماس انتصرت في هذه الجولة".
إنّه أكتوبر (تشرين الأوّل)، وتحديداً السبت الأوّل من شهر أكتوبر. خمسون عاماً مرّت على السبت الأوّل من شهر أكتوبر عام 1973، وتتكرّر الصورة وإن بشكل أصغر في السبت الأول من شهر أكتوبر عام 2023.
خمسون عاماً كانت كفيلة بالتأكيد على الصورة وإن اختلفت الأسماء وبعض التفاصيل، الصورة التي تقول إنّ هزيمة إسرائيل ليست أمراً مستحيلاً، بل هي أمر مقدور عليه في أيّ زمان ومكان وتحت أيّ ظروف سياسية أو غير سياسية.
4 وقائع لا يمكن تجاوزها
أرست العملية العسكرية التي نفّذتها حركة حماس ضدّ المستوطنات الإسرائيلية على حدود قطاع غزّة أربع وقائع ستترك أثرها الكبير على كلّ المسارات فلسطينياً وإسرائيلياً ودولياً، وجاءت على الشكل التالي:
1- تفوّق أمني استخباراتي فلسطيني مقابل فشل أمني ذريع للجانب الإسرائيلي إن على صعيد امتلاك المعلومة أو الرصد الدقيق لكلّ الوقائع، أو على مستوى القرار وكيفية حمايته لتحقيق شروط نجاحه. فإسرائيل مع أمنها وكلّ الإمكانات المتوافرة لديها لم تكن لديها معلومة أو قصاصة معلومة عن العملية العسكرية التي نفّذتها "حماس".
2- ضربة كبيرة لسياسة الاستيطان بفعل الصور التي انتشرت لمئات المستوطنين الإسرائيليين وهم يهربون من مستوطناتهم.
3- التأكيد على حقّ الفلسطينيين في القدس وتحديداً المسجد الأقصى مع هروب المستوطنين الذين اقتحموا الأقصى قبل أيام فور وصول صورعملية غزة إليهم، وهو أمر وثّقته أفلام الفيديو التي انتشرت على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
4- نهاية عصر أسطورة الدبّابات الإسرائيلية "الميركافا" مع انتشار فيديو يوثّق كيف أنّ الدرونز استهدفت الدبّابات بنجاح في المستوطنات المحيطة بغزّة. وهي صور تبدو مستنسخة عن صور الدبّابات الروسية في أوكرانيا.
ماذا بعد؟.. والقضيّة إلى أين؟
قال الناطق باسم أحد ألوية "حماس" في تصريح: "سنعيد ترسيم خارطة المنطقة وتصحيح البوصلة من جديد". أمّا رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو فقال: "أعداؤنا سيدفعون ثمناً قاسياً".
ما بين التصريح الأوّل والتصريح الثاني هناك تصريح يجب أن يُقال ولا يمكن صياغة هذا التصريح إلا بقراءة ما حصل ما بعد حرب أكتوبر عام 1973، تلك الحرب التي أقنعت الأطراف الأساسية فيها، أي مصر وإسرائيل، بالذهاب إلى تسوية سُمّيت لاحقاً باتفاقية "كامب ديفيد". إلا أنّ هذه الاتفاقية ما كانت لتحصل لولا وجود قوة كبرى تمتلك عقلاً سياسياً كبيراً كان يمثّلها وزير خارجية أميركي يدعى هنري كيسنجر، وإرادة صلبة بصناعة السلام تمثلت بالرئيس المصري الراحل أنور السادات. وكم نحلم أن نستعيد كعرب وفلسطينيين السقف السياسي الذي حدّده خطاب الرئيس السادات في الكنيست الإسرائيلي.
ما بعد 1973 استغرق الأمر سنوات لتخرج إسرائيل من سيناء وطابا وكلّ الأرض المصرية المحتلّة.
ما بعد 2023 كم تحتاج إسرائيل المنقسمة على نفسها بين محافظين وليبراليين، بين دينيين ولادينيين، لتقتنع أن لا حلّ إلا بتسوية سياسية، ويُطلق على هذا الحلّ اسم "حلّ الدولتين"، أي الأرض مقابل السلام، وهي المعادلة التي أرستها المبادرة العربية للسلام التي أطلقها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قمّة بيروت عام 2002.
يحتاج العالم إلى عقل وإرادة سياسية كبيرة يحوّل الحروب والنزاعات لحظة انفجارها إلى فرص للتسوية والاستقرار. كان هناك كيسنجر والسادات عام 1973، فهل هناك من يماثلهما في عام 2023؟ اغتيل السادات وبلغ كيسنجر من العمر عتيّا (يبلغ عمره 100 عام)، هي أعوام طويلة جداً لكن عقيمة، إذ لم تنتج مثل هذا الصنف من الرجال.
لعنة السبت الأوّل من أكتوبر ستبقى تلاحق الإسرائيليين. اعتقدوا بعد 1973 أنّها لن تتكرّر فإذا بها تتكرّر بعد 50 عاماً. صورة الجنود الصهاينة الأسرى في غزة بالأمس هي نفسها صورة الجنود الصهاينة الأسرى في سيناء، وربّما تكون الصورة نفسها بعد سنة أو 5 سنوات أو 50 سنة إن لم يُستحضَر العقل والإرادة السياسية التي من شأنها أن تُنزل الجميع على الأرض ليحفظوا حياة الإنسان على هذه الأرض.