خيام غارقة، أجساد ترتجف يكسوها ثياب تقطر بالمياه، أغطية مبللة لن تقي أصحابها لسعات البرد.. الوحل يكسو كل مكان، شوارع غارقة بمياه المطر نتيجة انهيار البنية التحتية، طوفان صرف صحي، بكاء، صراخ، عويل، قهر يشتعل كلما اشتدت الأمطار، بقايا بيوت مقصوفة، آيلة للسقوط استصلحها أهلها ويرتعدون خوفًا من انهيارها فوقهم بفعل ثقل انهمار المياه والسيول.
هذا هو المشهد باختصار في غزة؛ الشتاء صار كابوسًا جاثمًا على صدور كل من يقطن في هذه المقبرة العتيدة.
تقول أم مهند بحرقة وقهر: "غرقنا والشتاء لم يبدأ بعد، كل شيء مبلل حتى الأغطية والملابس، كأنني أعيش فوق البحر" لجمها العجز وغصة استقرت في حلقها ثم انهمرت دموعها بغزارة واكتفت بالإشارة بيديها بكل استسلام، وهي تدور وتنظر إلى الخيمة التي يتسرب المطر إليها من كل اتجاه، وتجري في أرضيتها المياه بارتفاع يغطي كل ما على الأرض من فراش وأكياس تحوي ملابسهم وأدوات المطبخ البسيطة.
غادرتها وهي تبكي بكاء العاجز الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت بينما تنظر لصغارها المُبللين الذين افترسهم البرد فحضنها هذه المرة لن يسعفها كي تدفئهم وتقيهم البرد الموحش لأنها مبللة مثلهم.
أما أبو محمد النازح من شمال غزة في وسط القطاع الذي ظن نفسه محظوظاً على حد تعبيره كون خيمته جديدة لكن حدث ما لم يكن بالحسبان فالمياه باغتته من الجوانب والأسفل وتسربت إلى داخل الخيمة، تحدث والغصة تحرق جوفه بينما جسده يرتجف بردًا: "كيف سأحمي طفلي محمد من كل هذا العذاب، ماذا أفعل وإلى أين أذهب؟ يتسائل بخيبة وعجز بينما يحتضن طفله المبلل الذي يبكي وأمه تبكي بجانبه، موضحًا: "كانت لنا بيوتًا بالكاد تحتمل شدة المطر، ماذا ستفعل لنا قطعة القماش هذه؟ حياتنا فيها عبارة عن غريق في الشتاء و حريق في الصيف". ثم بدأ لسانه يلهج بالحمد تارة وبالدعاء تارة وهو يقف بعجز ويكتفي بالنظر لما حلّ به.
دخلت على أم سعيد التي ترعى أبنائها بعد رحيل زوجها، والتي صنعت لهم كوخًا بسيطًا سقفه من صفيح وجدرانه من الحجارة؛ ظنًا منها أنه سيحميهم من تسرب المياه، لكن خانها السقف وخانتها الجدران وتسربت المياه إليهم وهُم نيام؛ كَلِص خفي أغرقت كل شيء حولهم، كانت أم سعيد تجهش بالبكاء، عويلها يمزق القلوب، فتياتها يقفن وينظرن بصدمة وذهول حولهن بعد أن أيقظهن المطر المنهمر على أجسادهن وفراشهن.
قاطعت أم سعيد البكاء وقالت: "حفيدتي الرضيعة غرقت، ثيابها، مهدها كل خيمتهم غرقت، وها هي تصرخ من البرد، هذه ليست حياة هذا جحيم".
ثم تابعت بحسرة: "كان لي بيتي المكون من طابقين الذي بنيته بتعبي سنوات، لكن تم قصفه وبقيت في الشارع؛ حاولت استصلاحه بما تبقى منه من سقف مهشم دون جدران والردم أكوام فيه لكن أخشى أن يسقط فوقنا عندما يشتد المطر، لا أدري ماذا أفعل ثم واصلت البكاء وهي تمسح دموعها بثيابها المبللة وهي تتفحص الأواني البلاستيكية التي وضعتها كي تتجمع فيها المياه التي يدلف بها السقف المصنوع من صفيح لا يقيهم برد الشتاء وحر الصيف".
هذه كانت نبذة بسيطة لجانب من حياة ثلاث أسر فقط من بين آلاف العائلات الغزية "أهل الخيام" الذين أصبح الشارع و الخيمة أمر واقع في حياتهم، لا يستطيعون الفرار من تحت وطأة عذاباته طيلة عامين، ولم يعتد أحد بالمناسبة على كل هذا ولن يستطيع هؤلاء الكرام أن يعتادوا أو يتأقلموا مع كل هذا الذل الذي يفتك بهم مهما طالت المدة ومهما جمّلوا حياة الخيام البائسة في العالم الافتراضي، التي في الحقيقة أوهن من بيت العنكبوت، مع أول قطرة مطر تنهار تلك الصورة المزيفة و يلطخها الوحل وينطفئ وهج الحياة الكاذبة؛ ففي حضرة صوت المأساة وصرخات عجز النساء والأطفال وبكائهم النحيب؛ تخرس كل الأصوات وتسقط كل الشعارات الكاذبة التي تتغنى بصمود زائف، بريء منه كل منكوب مقهور باتت الطرقات مأوى له.
