خمسون يوماً على الحرب، التي لم تضع بعد أوزارها. خمسون يوماً من الجنون الفاشي العنصري، ربحت خلالها إسرائيل الحرب على الحجر، وخسرت كل شيء.
إسرائيل في هذه الحرب أخذت مكان أوكرانيا كواجهة وأداة، لوقف التغيرات الاستراتيجية الكبرى التي يمرّ بها النظام العالمي.
أوكرانيا وإسرائيل، مجرّد أداتين في خدمة المصالح الأميركية و»الغربية» مع فارقٍ جوهري. أوكرانيا دولة وشعب وأرض وتاريخ، ولكنّ إسرائيل دولة وظيفية.
أنُشئت إسرائيل لتحقيق وظيفة للدول الاستعمارية التي أنشأتها لفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، ومنع إقامة مشروع قومي عربي موحّد، كان سيضع الأمة العربية في مصاف الدول الكبرى.
تملك الأمة العربية مساحة جغرافية تصل إلى أربعة عشر مليون كيلو متر مربّع، ويسكنها عدد أكبر من عدد سكان الولايات المتحدة بنحو مئة مليون نسمة.
وتملك الأمة العربية ثروات هائلة ومتنوّعة يمكن في حال استخدامها أن تضع الدول «الغربية» على ركبة ونصف الركبة، بالإضافة إلى الموقع الاستراتيجي الذي يتوسّط العالم ويتحكّم في جزء كبير من ممرّات التجارة الدولية.
في بداية الحرب قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إنه يجب تحقيق الانتصار في أوكرانيا وفي إسرائيل، وبعد خمسين يوماً لم تنتصر إسرائيل كما لم تنتصر قبلها أوكرانيا.
وفي حديث مبكر لبنيامين نتنياهو كان قال إن هذه الحرب ستكون الأخيرة بالنسبة لإسرائيل، بمعنى أنّه سيزيل التهديدات من الجنوب حيث فصائل المقاومة الفلسطينية، ومن الشمال، ويعيد الهدوء والاستقرار لمستوطنات «غلاف غزّة» والشمال.
أراد نتنياهو الذي اشتغل وكيلاً لتحالف «غربي» واسع تتزعّمه الولايات المتحدة أن يُلقي بالفلسطينيين في الأردن، بعد أن تكون سيناء محطّة وسيطة، بأمل إزالة القضية الفلسطينية من طريق إعادة بناء خارطة الشرق الأوسط بما يتناسب ورغبة الولايات المتحدة في تعميق وتوسيع هيمنتها.. «سايكس بيكو» آخر، هو عنوان الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها من خلال الأداة الإسرائيلية.
أمّا إسرائيل فهي تخوض هذه الحرب، تحت وطأة المخاوف مما يحمله العقد الثامن وقادتها يعتقدون أنّ لديها من القدرة العسكرية ما يكفي لتجاوز هذه العقدة وإلحاق هزيمةٍ ماحقة بكلّ مصادر التهديد، بل والقدرة على استكمال المخطّط الصهيوني التوسُّعي الذي يشمل كلّ أرض فلسطين التاريخية، ويفيض عن ذلك إلى المحيط العربي.
العرب كلّهم يفهمون أبعاد المخطّطات والأهداف الاستعمارية التي تقف خلف هذه الحرب المجنونة، لكنهم يتصرّفون من الموقع الذي تتصرّف منه الولايات المتحدة، التي تهتمّ بمصالحها كأولوية قبل مصالح إسرائيل التي يمكن التضحية بها حين تنتهي وظيفتها.
العرب، أيضاً، يدركون أنّ الشعب الفلسطيني يخوض معركة الدفاع عن قضية وعن أمن واستقرار ومستقبل الأمّة العربية، مع فارق أنّهم يمتنعون عن الانخراط في معركة الدفاع عن مصالحهم بينما الولايات المتحدة وقفت منذ اللحظة الأولى بالباع والذراع إلى جانب إسرائيل.
مؤسف أن يكون الرهان على الرأي العام العالمي أكثر من الرهان على الرأي العام الرسمي والشعبي العربي ولكن ربما تقف خلف هذا عبرة تاريخية.
لم يخطئ الفلسطينيون حين اعتبروا مبكراً أنّ الولايات المتحدة والاستعمار «الغربي»، العدو الأساسي الأوّل للشعب وقضيته، وكلّ قضايا التحرّر الوطني على وجه الأرض ولكن بعضهم ممّن أصابه الوهن، أسقط مثل هذا الاستنتاج السليم.
إسرائيل خُلقت في الحاضنة الاستعمارية الدولية، لتحقيق أهداف السيطرة، ولذلك فإنّ سقوطها، سيكون حيث المكان الذي وُلدت فيه، ولذلك من المهمّ جداً المراهنة على تغيير الرأي العام الدولي، ولكن من دون إغفال دور الشعب الفلسطيني ومن يقف إلى جانب حقوقه.
ينبغي أن نذكر بأنّ الدول الاستعمارية التي تقف مع إسرائيل، كانت قد وقفت لعقود طويلة إلى جانب نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وأنّ ذلك النظام سقط حين أجبر الرأي العام في دول «الغرب» أنظمتها السياسية على رفع الدعم والتأييد لذلك النظام. وفي حالة أخرى، فإنّ ضغط الرأي العام الأميركي هو الذي أجبر الإدارة الأميركية على الانسحاب من فيتنام، بعد مقاومة قوية ألحقت الكثير من الخسائر البشرية والمادية بالجيش المحتل.
ماذا عن الحرب الشاملة التي يخوضها «الغرب» من خلال إسرائيل بعد خمسين يوماً ولا تزال مفتوحة على المزيد من الوقت والمزيد من الخسائر؟
خسائر الجانب الفلسطيني يمكن إحصاؤها ومشاهدتها بالعين المجرّدة سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة.
مئات آلاف الوحدات السكنية والمعالم التاريخية والبنى التحتيّة، تمّت تسويتها بالأرض.
أكثر من عشرين ألف شهيدٍ، سبعون في المئة منهم من الأطفال والنساء، وأكثر من خمسة وثلاثين ألف مصاب.
يبدو هذا وكأنّه إنجاز لنتنياهو وجنرالاته، لكنّه إنجاز عكسي حيث تسبّب ذلك في استنهاض الرأي العام الدولي ضدّ إسرائيل ومن يساندها وجعل دولة الاحتلال دولة منبوذة، فضلاً عن أنّه أسقط كلّ الأقنعة، وكلّ منظومة القيم الزائفة التي اعتادت إسرائيل وداعموها على ترويجها.
هذا الإنجاز لإسرائيل يمكن تعويضه طالما أنّ الشعب الفلسطيني باقٍ في أرضه، حتّى لو اقتضى ذلك أن يسكن الناس الخيام إلى أن يستعيدوا بناء ما تمّ تدميره. والشعب الفلسطيني قادر على لملمة جراحه، وإعادة بناء حياته، وتعويض الشهداء الذين سقطوا من أجل أن يعيش أبناؤهم وأحفادهم حياة حرّة كريمة.
وبالمناسبة فإنّ الشعب الفلسطيني، دفع أثماناً وتكاليف باهظة جدّاً خلال مرحلة الصراع الطويل، ودفع آلاف الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى خلال العدوانات الإسرائيلية على غزة والضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية.
حين يدفع الفلسطيني مثل هذه التكاليف الباهظة، فإنّه يدفعها وهو على أرضه ومن أجلها، ولكن حين تدفع إسرائيل تكاليف باهظة، فإنّها تدفع ثمن انهيارها.
إن إسرائيل التي فشلت في تحقيق أيّ من أهداف الحرب تتحدّث مصادرها عن خسائر منظورة تقدّر يومياً بمئتين وسبعين مليون دولار، هذا من دون حساب للشلل الاقتصادي والاستثماري الذي أصابته أضرار بالغة، جعلت الجيش يسرّح جزءاً من جنود الاحتياط للعمل وإعادة تشغيل بعض المنشآت الإنتاجية.
وفي المشهد خسارة الجيش الإسرائيلي ثلاثمائة وستين آلية بين دبّابة، وجرّافة وناقلة جنود، هذا في غزة وحدها، بالإضافة إلى الأضرار التي أصابت سمعة الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
يتكتّم الجيش الإسرائيلي على الإعلان عن خسائره البشرية، ولكن مدير جمعية المعاقين العسكريين يقول إن ألفاً وستمائة جندي أُضيفوا إلى الجمعية وإنّ آلافاً أخرى مصابون بأمراض نفسيّة.
غير أنّ هذا ليس كلّ شيء، فلقد استمعت إلى إحصائية من فضائية مصرية، أشارت إلى أن ثلاثمائة ألف إسرائيلي غادروا إلى الخارج، وأنّ مثلهم ينتظرون موافقات للمغادرة.
الحرب لم تنتهِ والمقاومة صامدة، وبحيويّتها كما تعترف إسرائيل، وستظهر بعد جلاء الغبار، أنّ خسائر إسرائيل الشاملة، تعطي مؤشّرات قوية على استعصاء أزمتها بشكل غير مسبوق.