خلال 58 عاما نجحت الثورة الفلسطينية وعامودها حركة فتح، تمكنت من صناعة بداية جديدة ليس لعام بل لشعب وقضية، بعدما تمكنت قوى الاستعمار قديمه وجديده وأداته التنفيذية المستحدثة في المنطقة العربية، الحركة الصهيونية من اغتصاب فلسطين.
الانطلاقة الثورية الفلسطينية منذ الفاتح من يناير 1965، شكلت رافعة القضية الوطنية ومنحت فلسطين حضورا تاريخيا، رغم كل أركان المؤامرة التذويبية، بأطراف متعددة، عملت كل ما يمكنها لشطب مسمى وطن وإذابة هوية شعب، ليصبح تائها بمسميات مختلفة، بل وبهويات مختلفة، ظنا أن "عهد التيه" سيدخل نفقا ظلاميا الى زمن بعيد، فكانت المفاجأة الكبرى ردا على المؤامرة الكبرى مع رصاصة الإعلان الثوري الجديد..هنا فتح ..هنا فلسطين..هنا ثورة شعب فلسطين.
ربما لم تتعرض ثورة شعب لكمية من أشكال التأمر كما عاشته الثورة الفلسطينية وحركة فتح، ليس من عدو معلوم فحسب، بل ممن يفترض أن يكون "شقيقا"، لكنها واصلت مسار انحناءات ودرب آلام طويل، الى أن وضعت حجر أساس الكينونة الأولى فوق أرض فلسطين، وتأسست أول سلطة وطنية لشعبها مايو 1994، كان لها ان تواصل الصعود الى استكمال أركانها نحو دولة الاستقلال الوطني.
مشروع تأسيس الكيانية الوطنية الأول فوق أرض "بقايا الوطن"، تعرض لمؤامرات كانت أكثر اتساعا بأطرافها مما تعرضت له الثورة وحركة فتح في المسار الطويل، لأن التشكيل الكياني كان هو الترسيخ الثوري العملي الأول للرد على المؤامرة الكبرى عام 1948، ما أربك جوهر مشروع "الإذابة"، الذي حاولت أطراف متعددة الاسم والهوية أن يكون بديلا لفلسطين، ولذا منذ وضع الخالد المؤسس ياسر عرفات حجر أساس الكيان الفلسطيني الأول 4 مايو 1994، برز تحالف سياسي فكري نادر، بين يهود وعرب وعجم ومن ذات الشعب..تحالف وقفت الإدارة الأمريكية مسيرا له، مستخدمة أطرافا مختلفة الهوية كي تكسر عاموده الفقري، وتحد من قوة اندفاعه.
مؤامرة كسر عامود الانطلاقة الكيانية الفلسطينية بعد 1994، هو الوجه الآخر لمؤامرة الاغتصاب 1948، تطل عملية استكمالها بعد 7 أكتوبر 2023، لتعيد كل ما كان ثورة وانطلاقة كيانية نحو استقلالية وطنية الى الوراء كثيرا، وتصنع مسارا لـ تيه من نوع جديد"، بين تدمير وتهجير وإذابة، وبداية لفرض مفهوم "وصاية سياسية" مستحدثة، تحاصر رصاصة الانطلاقة الكيانية التي بدأت.
ما قبل 7 أكتوبر 2023، كان الرهان الكبير أن تكسر حركة فتح رتابة المشهد الحاكم، نحو قيادة استمرارية الكيانية الوطنية من خلال فك الارتباط بدولة العدو وإعلان دولة فلسطين تحت الاحتلال، لصناعة معادلة كفاحية تعيد للحركة قيمتها التي ترسخت منذ رصاصة يناير 1965، بها فرضت ثورة شعب وقيادتها لثورة شعب، دون أن تضع حسابات الربح والخسارة الذاتية..بل كانت تبحث ربحا وطنيا تاريخيا.
فتح حركة وحكما، بعد 7 أكتوبر، ومع ذكرى الانطلاقة بعامها الـ 59، فقدت بريقها الثوري الذي كان، تقف وكأنها طرف ينتظر ما سيمنح لها من هنا وهناك، فقدت روح المبادرة التي كانت سمتها الأولى، فغابت عن المشهد رغم كل ما لها "سلطة وتمثيلا مؤسساتيا"، باتت خارج حركة التأثير على المسار الرئيسي في المرحلة الراهنة من الحرب على قطاع غزة.
فتح، الحركة التي منحت لقبا لم يمنح لغيرها بأنها "أم الجماهير"، لكونه تشبه الشعب الفلسطيني، حركة خارج الطائفية والحزبية المغلقة، هي أقرب لتشكيل جبهوي منها إطار حزبي، فتح الفريدة بما كانت، أصبحت تقف متفرجة على محاولة شطب تاريخ قضية وتذويب هوية وتهويد وطن وأرض.
فتح، اليوم ليست هي فتح التي كانت، والاعتقاد أن تاريخها وما قدمته عطاءا لا مثيل له تضحية وشهداء وقيادة مرحلة طويلة الى أن رسخت الكيان الأول، ذلك لن يكون سلاح حماية، وحركة التاريخ السياسي لها من التجارب ما ينطق بلغة النفي للاتكالية على الماضي.
حرب غزة، مرحلة فاصلة لصناعة قادم سياسي من يقف حائرا معه لن يكون حاضرا به، بعيدا عن كل الشعارات..عجلة التاريخ لا تنتظر متلعثما ولا تقبل مترددا فالحركة فعل ومبادرة..كما كانت "فتح" يوما.
فتح، التي تعتقد أن ما قدمته من تاريخ فريد في العطاء الثوري كاف لحماية مستقبلها، هي بذلك تبدأ رحلة سفر هدم التكوين الأول...فليس بالبيان وحده تستمر شعلة الثورة.
ملاحظة: لن ينجح عدو الإنسانية في حصار روح فلسطين...في عام مثخون بالجرح الأدمى في غزة ستبقى شعلتها الى نصر لن يغيب...في ذكرى ثورة مجد تبقى روح شهداء العطاء وزعيمهم ياسر عرفات حارسة البقاء الأبدي.
تنويه خاص: مش عيب أبدا أن يكون الكارثة الإنسانية لأهل قطاع غزة هي العنوان في كل وسيلة إعلام ..العالم يرى جرائم حرب قبل أن يرى "انتصارات ثورجية الزمن الأغبر".