لم يكن لمفردة الأمل في التاريخ المعاصر والحديث لشعبنا الفلسطيني من معنى كما أصبح لها من مشاعر حسّية، نابضة بالحياة وبالفداء مع نهاية هذا العام، وإطلالة العام الجديد.
من أشدّ ما كتب سيّد الكلام الفلسطيني إيلاماً «نحن الآن غيرنا».
كان موجعاً، إلى أبعد الحدود، وقد شعر كلّ فلسطيني وفلسطينية آنذاك أنّ ثمة ما كُسِرَ بداخلنا، وأنّ ثمة من ألقى بنا في غياهب اليأس والإحباط.
عقود طويلة ونحن لا نراكم سوى التهميش والتجاهل المجبول بالضياع وفقد الاتجاه، وتنمو فيه كلّ سنةٍ على صدر سنة جديدة دون أن نرى مظاهر للخروج من دوّامة هذا اليأس.
لم يمضِ إلّا أقلّ من عقدين من هذا الزمن الرديء، وإذا بشعبنا كلّه يعود إلى ساحة النزال ليثبت لنفسه أنّه الأجدر من بين شعوب الأرض قاطبة على اجتراح المعجزات، وليبهر العالم كلّه بعنقائية إعجازية لقرنٍ قادم بدلاً من عدّة عقود فقط.
العام الجديد هو عام فلسطين، عام حرّية فلسطين، وأغاني العالم هي أغاني فلسطين، واحتفالات العالم بطعمٍ فلسطيني، طعم مرّ ومؤلم، ولكنّه يعبق برائحة البطولة، أيضاً.
عامٌ فلسطيني يطلّ من بين الركام الهائل، ومن ثنايا حرب البرابرة على شعبٍ يعشق الحرّية، ويلقّن عالم الظلم والعدوان، وهواة الموت والإبادة دروساً في معنى حبّ الأوطان والتعلّق بالأرض والانتماء إلى كلّ تفاصيل الحياة بين أحضانه.
نحن الآن غيرنا، ولم نهرم، تعبنا نعم، مُصابنا هائل، أرواحنا تكاد تقفز من صدورنا على صغارنا، وعلى أشلائهم، على أمّهاتنا المفجوعات، وعلى آلاف فقدوا أمّهاتهم وآباءهم وأخواتهم وخالاتهم وعمّاتهم وكلّ أقاربهم وجيرانهم، ومعارفهم وأصدقاءهم.
على مئات آلافٍ ممّن وجدوا أنفسهم في العراء، يتلطّون من أطنان القنابل الأميركية بحائط سقط ولم يتبقّ منه سوى ما يدلّ على أنّه ربّما كان زاوية من زوايا بيتٍ تحوّل إلى شظايا متطايرة.
لم يُبقِ البرابرة لهم سوى حُطام أشيائهم الفقيرة، وصار عليهم الآن أن يهيموا على وجوههم، مرّةً للبحث عن أحبّائهم الذين ضاعوا في دخان القصف، ومرّةً ليجدوا ما يُبقيهم على قيد الأحياء.
تعِبنا، ولكنّنا لم نُهزم، تمزّقت أرواحنا ولكنّنا نملك طاقةً لا تنضب من حبٍّ مُفعَمٍ بالكرامة والكبرياء.
لم يكن للكرامة مدلول في هذا الجزء من العالم كما له اليوم، ولم يكن للتشبُّث من صدق المفهوم، وعمق المعنى كما له في وعي الفلسطيني، وفي أعمق أعماق الوعي العربي. نحن الآن غيرنا.
تعِبنا، نتضوّرُ انتظاراً لما يُمكن أن يدلّ على أنّ هناك من هو مستعدّ لنصرتنا، من عشرات الدول التي تطلق على نفسها صفة العروبة والإسلام، «ليفرجوا عن مياه الشرب» دون جدوى.
أرهقت أرواحنا في مشهديّة «كرنفال» شواء اللحم الفلسطيني، ولكنّنا نواصل البقاء، ونواصل فنّ الإبقاء ومهارة التحايل على وجع القلوب.
أصبحنا الآن غيرنا، تعلّمنا دروساً جديدة في عالم الزمن والسرعة والمسافة، وفي التعبير عن الوجع.
أصبح لدينا «من مسافة صفر»، وعلى مرمى القذيفة، وأضفنا إلى مفهوم الحمد لله مفهوماً جديداً هو [معلش]، وصرنا نقيس الزمن بحلول بشائر الاستبسال من بين أزقّة الدمار المحترق.
نحن الآن غيرنا، نصدّق أنفسنا، ولم نعد نُصغي للغة الهمم «الإعلامية»، ولا لكلّ ما يقوله البرابرة.
أصبحنا أقوى ممّا كنّا عليه بآلاف الأضعاف، وأصبح لدينا ما يشير علينا بالدخول إلى باب الحياة الحرّة، وما يدلّ عليهم بدخول باب الغامض والمجهول.
نحن الآن غيرنا، فقد أصبحنا على بُعد أمتار من استكمال بناء الجسر، والعبور إلى مساحة الأمل، ونحن على بعد عدّة أشهر فقط من العام الجديد للإعلان عن معجزة القرن الجديد.
أصبح لدينا الآن ما نُسمّى به، وما يُشار إلينا للدلالة عليه، أصبح لدينا ما بات يُسمّى القرن الفلسطيني، على حساب القرن الصهيوني، وربّما على أنقاض القرن الأميركي، أيضاً.
نحن الآن غيرنا، لأنّنا أدركنا دروس القرن الماضي كلّها، وفهمنا «لعبة الأمم»، واستوعبنا كلّ مفردات الكذب والنفاق الاستعماري، وتشرّبنا حكمة التعافي من ثقافة الاستعلاء والعنصرية.
نحن الآن على أتمّ الاستعداد، وعلى كامل الجاهزية لخوض معركة الخوف من موازين القوى، ومن مهابة التفوُّق، ومن «أهازيج» الكفّ والمخرز، ومن كلّ تراث الاستكانة والذهاب إلى توسُّل المحتلّ للتخلّي عن احتلاله.
عام فلسطين هو عام الإنسانية الخيّرة التي انتصرت لفلسطين، وانتقلت في تضامنها مع فلسطين من موقع الشعور بالفجيعة، والألم على أعداد الضحايا، ومن مواقع الحزن والإشفاق إلى مراتب الحقّ والعدالة، وإلى فعل التصدّي للعدوان والوصول إلى حواف شرعيته ووجوده.
عام فلسطين، هو عام الحرّية وانتصار الإنسانية لشعبها الذي أصبح منارةً للشعوب التي تُجيد الدفاع عن حقوقها.