لماذا الدم العربي رخيص؟

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

قبل طوفان الأقصى بأشهر اندلعت حرب أهلية في السودان راح ضحيتها عشرات الآلاف، وقبل الحرب بيوم واحد، هاجمت طائرات مسيّرة إرهابية حفل تخريج للجيش السوري كانت تحضره عوائل الطلبة، فقُتل نحو 90 شخصاً وجرح 300، أغلبهم مدنيون.. وبعدها بأسبوع قُتل عشرة مصلّين وأصيب عشرات آخرون في تفجير انتحاري هزّ مسجداً في شمال أفغانستان.
الخبران الأخيران تم تجاهلهما في وسائل الإعلام، ومن المرجح أن أكثركم لم يسمع بهما.. كما تم تجاهل عشرات الأخبار عن هجمات وتفجيرات وحروب وقعت في أنحاء متفرقة في العالم، خاصة البلدان العربية والإسلامية، وراح ضحيتها آلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى والمكلومين.. وأتحدث هنا فقط عن العام الماضي.. فلو أردنا الحديث عن الفترات السابقة سنحتاج مجلدات.. كل تلك الأحداث لم يكن الإعلام يعيرها شأناً، وبالكاد تأتي خبراً ثانوياً، وكذلك كان تفاعل الناس معها؛ تجاهل وصمت وعدم اكتراث.. علماً أن الضحايا بشر ومدنيون!
في يوم السابع من أكتوبر صحا العالم على حدث جلل، كل الفضائيات العربية والدولية تفرغت له، الصحف، وكالات الأنباء، البرامج التلفزيونية، وسائل التواصل الاجتماعي.. اهتمام عالمي مكثف وغير مسبوق.  
هل تعلمون لماذا؟ لأن القتلى إسرائيليون.
في الفترات السابقة من عمر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت إسرائيل تقتل مدنيين فلسطينيين بشكل يومي وممنهج، وأحياناً يكون عدد القتلى بالعشرات والمئات والآلاف.. دفعة واحدة أو بالتقسيط.. ومع ذلك يظل الإعلام صامتاً، ويظل العالم صامتاً.. ليس العالم الغربي والإعلام الصهيوني فقط، بل العالم العربي والإسلامي والإعلام العربي الحر! ولكن بمجرد أن يُقتل إسرائيلي واحد أو يُجرح مستوطن تتنبه كل وسائل الإعلام، وتعود القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد.
في السنوات السابقة قُتل في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان وغيرها أزيد من مليوني إنسان، فيما تهدمت بيوت عشرات الملايين، وتشردوا في بقاع الأرض سواء على يد القوات الغازية الأميركية والبريطانية، أو على يد أنظمة الاستبداد والمليشيات الإرهابية.. وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى قُتل الآلاف وسجن عشرات الآلاف، وتحولت حياة الملايين إلى بؤس وفقر مدقع.. في العراق وسيناء وباكستان وأفغانستان قتل آلاف المصلين المسلمين، على يد جماعات إسلامية أخرى في عمليات انتحارية كان منفذوها يكبّرون!  ومع كل هذا الجحيم لم نشاهد الإعلام الغربي ولا العربي! ولم نسمع عن الضمير العالمي! ولم نلمس تفاعل الجماهير والشعوب العربية كما ينبغي! ولم تتبلور حالة متقدمة من الوعي من وراء ذلك كله، رغم كل تلك الصدمات! كان الدم العربي فيها رخيصاً! والسؤال: من الذي رخّص هذه الدماء، الغرب، أم نحن؟ أم كلانا؟
نعلم يقيناً أنَّ الغرب الاستعماري العنصري ينظر إلينا بفوقية، وبعقلية المستعمر الأبيض، ويرى العالم الثالث مجرد بشر بدائيين، وليس لحيواتهم أي قيمة، ويتعامى عن رؤية مشاكلهم ومعاناتهم وقتلاهم.. وهذه النظرة متأصلة في عقولهم وسياساتهم وإعلامهم.. لكن العالم الثالث عموماً ولأسباب ثقافية ودينية واجتماعية (لا مجال لذكرها هنا) يمارس في حق نفسه وبحق شعوبه نفس الاسترخاص.. استرخاص المواطن، وكرامته ودمه.  
بالعودة إلى فلسطين كمثال توضيحي؛ بينما نشاهد المذابح المروعة في غزة التي يقترفها جيش الاحتلال بكل همجية وقسوة، ويروح ضحيتها المئات دفعة واحدة، وجلهم أطفال ونساء ومدنيون.. نأسف ونحزن ونغضب ونبكي ونلعن عجزنا ونشتم صمت العالم وتواطؤ الدول الكبرى.. ثم يأتي خبر عاجل عن رشقة صواريخ قسامية، فتنتقل الكاميرات ومعها قلوب العالم وأنظارهم واهتمامهم نحو تل أبيب، ينتقل جميع العالم بما في ذلك الفلسطينيون والعرب.. الإعلام الغربي يتحدث عن القصف العشوائي، والضحايا المدنيين، والخائفين في ملاجئهم المحصنة.. إلخ.. أما في في الجانب العربي والفلسطيني فجأة تتحول المشاعر، فتطغى مشاعر الفرح بإصابة بضعة إسرائيليين بجراح واحتراق مرآب سيارات وتحطم واجهة مبنى.. ومعها مشاعر النشوة بالقوة، والزهو بتحقيق انتصار ولو صغير.. ليس في كلامي أي انتقاص أو نقد للصواريخ، أو التقليل من شأنها.. فهذه هي إمكانيات المقاومة.. الحديث عن مشاعر الناس وتفاعلهم.. وكيف تطغى مشاعر الزهو والنشوة وربما الانتقام من صورٍ لدمارٍ بسيط جداً، وصور بعض الجرحى والقتلى الإسرائيليين على مشاعر الحزن والغضب من صور الدمار الرهيب وعشرات آلاف الشهداء وصور الأطفال والنساء والعائلات الثكلى في غزة!! وفوق ذلك يطالب البعض بعدم التركيز على مشاهد الدمار والأشلاء في غزة لأن هذا يُضعف معنوياتهم! ويطالبون بالتركيز على صور الصواريخ ودخانها ووميضها وصوت صفارات الإنذار في المستوطنات.. فهذه ترفع معنوياتهم وتزيد من دفقات الأدرينالين! ولا أحد يعرف ماذا تستفيد غزة من معنوياتهم؟
هذا التشوه والاضطراب في المشاعر له أسباب نفسية كثيرة، مرتبطة بمشاعر الغضب المكتوم والأحزان المتراكمة ومشاعر القهر والسخط التي تراكمت على مدار سنوات الاحتلال، وبسبب جرائم الاحتلال.. هذا كله مفهوم ومستوعَب، والمفترض هنا أن تتغلب مشاعر الحزن والغضب والتأثر بالضحايا الفلسطينيين على مشاعر الانتقام والفرح بأي ضربة توجه على العدو.. وهنا تنبري أصوات المنظّرين ويبررون ذلك بأن النصر يستوجب التضحيات، والتضحيات هنا هي آلاف الشهداء وأغلبهم أطفال ونساء ومدنيين، وخراب عشرات آلاف البيوت وتشرد الملايين.. التضحية هنا مبررة ومقبولة حتى لو كان ثمنها مجرد صور الصواريخ ودخانها، ببساطة لأن المضحين في نظرهم مجرد أرقام، وأضحيات، ووقود للحرب المقدسة.. وبعبارة أدق: هؤلاء دماؤهم رخيصة.
ولرخص الدم، وانعدام قيمة الإنسان العربي أسباب أخرى: أنظمة القمع جعلت حياة المواطن بلا قيمة، فلا أسهل عندها من القتل والسجن والتنكيل، حتى بات المواطن نفسه غير مؤمن بقيمة حياته، وغير متفائل بأي مستقبل.. الثقافة المنتشرة تشجع على الموت والشهادة، وتجعلنا نتقبل جرائم القتل بالزغاريد والتهاني وبمسميات وتعابير تلطف من وقع الخسارة، بل وتجعلها رائعة.  
حتى في الزواج والإنجاب والتربية والتعامل مع الأطفال نتعامل بثقافة سلبية لا قيمة للإنسان فيها، الزوجة والأبناء مجرد أرقام، يمكن تعويض خسارتهم بسهولة، بالزواج مرة ثانية، وبإنجاب أولاد آخرين.. هكذا بكل بساطة.
سننتصر حضارياً وعسكرياً فقط حين نؤمن حقاً بأن دماءنا عزيزة وغالية، وأنَّ حياة كل إنسان لها قيمة عالية.. وأن الحرية والحياة الكريمة والمستقبل المشرق هي فقط من يستحق التضحية، وليس الثارات القديمة والانتصارات الزائفة.
سننتصر حين نبدأ بالتفكير والتصرف بعقلانية وإنسانية، وليس بالعاطفة المتشنجة ولا بالشعارات الكبيرة والخطابات الرنانة.