لأول مرة، تقف إسرائيل متهمة أمام محكمة دولية، وهذا انتظره طويلا الفلسطيني الذي تعرض لأبشع ما يمكن أن تتعرض له شعوب في العالم من قتل وتهجير وسحق، وها هو الآن يراها في قفص الاتهام تدافع عن نفسها بلغة ركيكة تحاول فيها الهروب من واقع جرائم اندلقت بلا حساب من مسؤولي الدولة، وجسدتها الآلة العسكرية التي تتحرك مدججة بعقل أصابه التاريخ والثقافة بما يكفي من تشوهات.
إذا لم يدرك العالم ومفكروه وسياسيوه أن العقل الإسرائيلي مختل سنكون أمام أنهار من الدماء لعقود قادمة، هذا بيت قصيد الصراع الطويل على هذه الأرض، هذا العقل الذي حاول الكثير من المثقفين سبر أغواره لتنبيه العالم من حروب ستصل نيرانها إلى عتبات العواصم وها هي تتجسد في البحر الأحمر واقتصادات الكون ليس إلا لأن هناك سلوكا ينتجه خلل يطال البنية الفكرية لمن يعتبر نفسه فوق بقية شعوب العالم.
أفضل توصيف قدمه الكاتب الإسرائيلي المتنور جدعون ليفي عندما حاول تشريح العقل قائلا، إن «الإسرائيلي مسكون بفكرة شعب الله المختار، ثم اكتملت الرواية بالمحرقة النازية ليكون ضحية التاريخ» ومن هنا يصاب الإسرائيلي بالاستغراب إذا ما تم توجيه أي ملاحظة نقدية ولو صغيرة، معتبرا ذلك خارج المنطق وخارج التصور ولا يجوز إطلاقاً.
فشعب الله المختار يختلف عن الشعوب الأخرى بل يقف فوقها جميعا وإن كل الشعوب الأخرى مجرد خدم وعبيد لمن اصطفاه الله دون البشرية هكذا ورد في النص الديني عندما رأى حام عورة أبيه كما يكتب سفر التكوين وهو والد كنعان الذي لم يكن قد ولد بعد ولا ذنب له بما حدث مع أبيه حام ليطلق النص الديني صرخته «ملعون كنعان ... عبد العبيد يكون لأخويه» هكذا هو الأمر.
لا أحد ينكر المحرقة التي تعرض لها اليهود على يد النازي منتصف القرن الماضي كحدث من أسوأ أحداث التاريخ، وهذا ساهم في زيادة تشوه العقل بالإضافة للنصوص ليبقى العقل مسكونا بسيكولوجية الضحية ومتكئا عليها للاستمرار، بل وسعت إسرائيل لاعتبار نفسها ضحية التاريخ الوحيدة ومن هنا ثارت ثائرتها ذات مرة على شاؤول موفاز حين كان رئيس أركان في أحد اقتحامات شمال قطاع غزة في السنوات الأولى للانتفاضة عندما أطلق على عمليته «شوؤاه» وتعني بالعربية المحرقة باعتبار أن هذا الوصف محتكر فقط لهم ولا يحق لأحد أن ينازعهم ... فقد ارتكب موفاز خطيئة كبرى ولديه من اللغة ما يكفي من الأوصاف ذبح، تدمير، سحق، كل شيء إلا المحرقة ...!
شعب الله المختار، كما يقول جدعون ليفي، يحق له ما لا يحق لغيره لأنه مميز ومصطفى يحق له أن يقتل وأن يرتكب إبادة وأن يحاكم البشرية كلها، لكن أن يخضع للحساب والمحاكمة فهذا خارج المنطق ومن تعرض للمحرقة لا يحق لأحد أن يسأله عما يفعل فهو ضحية التاريخ الوحيدة ومن حقها أن تفعل كل شيء.
للشعوب هوية وسيكولوجيا تأخذ فرادتها من عوامل عديدة يتداخل فيها الدين والتاريخ والمكان والتجربة والثبات والترحال والمناخ وهواجس الزمن وهزات تعرضت لها تلك التجربة. فالدين هنا في إسرائيل يلعب الدور الأبرز في صياغة العقل والثقافة والسلوك لأمة صغيرة تغلق على نفسها، وقد غادرت إسرائيل عقلها العلماني الذي جاء حاملا التجربة الأوروبية أثناء التأسيس متكئا على ثورة فصلت الدين عن السياسة لتتذكر بعد عقود
أن عليها العودة لهويتها الخالصة. وما حدث قبل الحرب من صراع في المجتمع الإسرائيلي لم يكن سوى تعبير عن تلك العودة أو الرغبة بها.
جاءت أحداث السابع من أكتوبر لتستنفر العقل المختل بلا خطوط حمراء معتقدا أن على البشرية أن تصطف خلفه في طريق إبادته لمن تجرأ أن يعلن تمرده على العبودية، رغم الخطأ الفادح بالمساس بالمدنيين ولكن حتى لو اقتصر الأمر على العسكريين لن تكون إسرائيل أقل تواضعا في استنفارها، فكيف يجرؤ أحد على المساس بها مرة أخرى، وهنا على العالم أن يتجند ويعطي لها الحق بسحق ما تراه مناسبا ويسلح ويدعم بالمال والموقف وحينها تبدو المواقف ممن يطالب بوقف الانتقام مواقف مستهجنة ومستغربة .. كيف يجرؤ أحد أو أمم متحدة أو مجلس أمن أو دولة على الاعتراض على إسرائيل ... إنهم لاساميون يجب لجمهم لأنهم يتآمرون على إسرائيل.
جنوب إفريقيا الدولة التي تعرضت لعدوان التمييز العنصري لم تستطع الصمت على إبادة القرن في ظل كل شهود التاريخ. كم كان مؤثرا أن يقول رئيسها، إنه لم يشعر بالفخر كما يفعل وهو يجر إسرائيل بعقلها المصاب بلوثة للمحاكمة، وكم تبدو تلك الدولة كآخر حراس الضمير العالمي والعدالة الإنسانية وهي تحمل على عاتقها تصويب الخلل الذي أصاب البشرية التي تقف متفرجة على أحدث عمليات الإبادة تحاول تذكيرها بأن هناك ميزانا واحدا للإنسانية وهو حياة الإنسان ولا أحد فوق القانون، وأن إسرائيل أساءت الأدب فقط لأنها أمنت العقاب ولم تحاكم على كل جرائمها. آن الأوان أن تجد نفسها في القفص ... تلك خدمة للإنسانية، شكرا جنوب إفريقيا الحرة.