اعترض أحد الأصدقاء على نقد حركة حماس في ما يتعلق «بتعاملها مع فلسطين كأرض وقف إسلامي» قال، إن «حماس» تؤيد إقامة دولة في أراضي الـ 67 ولا تُخَوِّن كل من يتبنى ذلك. وان توقيعها على «إعلان القاهرة» وعلى» وثيقة الأسرى للوفاق الوطني» وغيرها من الاتفاقات يشير الى تعاطي «حماس» الواقعي مع برنامج الدولة الفلسطينية. كذلك فإن «حماس» أسقطت الشرط الذي يقول بأنها لن تدخل منظمة التحرير ما لم تتراجع عن العلمانية، وانها اعتمدت صيغة في برنامجها عام 2006 تخفف من غلوائها الأيديولوجي عندما قدمت نصا يقول : «إن الإسلام مصدر رئيسي للتشريع» وليس «مصدراً وحيداً».
ووافقت على وجود نصوص في الاتفاقات والبرامج التي تسمح بالشراكة. غير ان التعبئة المعتمدة في الخطاب السياسي، والمعتمدة أكثر في الخطاب الديني لا تعكس هذه المرونة، فما تزال التعبئة السياسية والدينية والسلوك العملي والتطبيقي ينتمي للمواقف الايديولوجية المتشددة.
وان حركة حماس تعتمد سياسة مزدوجة وجه للاستهلاك الخارجي والقوى السياسية الأُخرى، وآخر للداخل وهو الأهم والذي يشكل أداة قياس لمواقف الحركة. ويمكن للمرء أن يلاحظ ذلك أثناء النقاش مع أعضاء او أصدقاء «حماس» المباشر وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
معوقات الوحدة الوطنية لا تقتصر على حركة حماس، فثمة عائق أساسي آخر يتمثل في سياسات ومواقف حركة فتح. فهذه الحركة التي تتبوأ موقع القيادة في المنظمة، وهي صانعة للقرار السياسي الرسمي الفلسطيني منذ عام 68 وحتى اليوم. وعندما نتحدث عن القرار السياسي والمشروع الوطني والديمقراطية فإن ذلك يحيلنا الى الطرف الذي له وزن حاسم في اتخاذ القرارات.
تطابق برنامج حركة فتح مع برنامج المنظمة مع برنامج السلطة وهذا يعني، تحول حركة فتح من حركة تحرر وطني الى حزب حاكم. ذلك التحول الذي جاء قبل أوانه، اي قبل إنجاز مهمة التحرر، وبمعزل عن امتلاك أية مقومات سيادية لهذه العملية. ولما اصطدمت الحركة بانسداد سياسي حال دون تحقيق برنامجها، أدخلت الشعب الفلسطيني في مأزق عميق.
لم تطرح حركة فتح ولم تتعامل مع خط رجعة او خط بديل في حالة فشل حل إنهاء الاحتلال عبر المسار التفاوضي الذي بدأ في أوسلو، وعبر الوساطة الأميركية التي احتكرت العملية السياسية وأوصلتها الى نتائج مأساوية، بل لقد وضعت حركة فتح كل رهانها على الحل التفاوضي ودمجت المنظمة بالسلطة لصالح الأخيرة، ورهنت وجودها ومستقبلها وطموحاتها بذلك الحل المأمول. لقد وضعت كل أوراقها على الطاولة تحت رحمة سلطات الاحتلال، عقدت المجلس الوطني – مرة واحدة- وعقدت المجلس المركزي -عدة مرات- وعقدت مؤتمر فتح السادس وعقدت وما زالت تعقد اجتماعات اللجنة التنفيذية، وكل الاجتماعات عقدتها في الاراضي المحتلة برغم مواقف دولة الاحتلال وتحولاتها وسياساتها التي تقوض مقومات الدولة والاستقلال وإنهاء الاحتلال.
إن هذا السلوك يعني فقدان اي خيار آخر طوال الوقت، ويعني البناء على ارض غير صالحة للبناء، فضلا ان «البناء» ظل تحت رحمة دولة احتلال، تتبنى سياسة منهجية لإضعاف وتفكيك وإحباط الوضع الفلسطيني. اعتمدت حركة فتح خياراً سياسياً وحيداً من فوق، دون أن تحاول توفير مقومات نجاحه من تحت. لم تستقو بثقل شعبي، ولم تمارس الضغوط بالاستناد الى تحالفاتها التاريخية، وبقيت بانتظار قناة التفاوض وما ستسفر عنه من نتائج. وعندما اخفق التفاوض وتحول الى مهزلة.
لم تتجاوز حركة فتح سقف النضال الدبلوماسي والمعركة الدبلوماسية. وعندما اندلعت هبة شبابية عفوية في تشرين الاول الماضي، لم تضع حركة فتح ثقلها في الهبة بغية تحويلها الى انتفاضة شعبية تعيد طرح القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية والعربية. وتعيد بناء التحالفات وشبكة العلاقات القديمة الجديدة. وبقيت تعتمد سياسة تحت سقف السلطة وشرعيتها المتآكلة شعبياً، تخوض معركة دبلوماسية دولية، وقليلا من المقاطعة الاقتصادية، وكثيراً من الشكاوى.
على ضوء ما تقدم يمكن القول ان تحول حركة فتح الى حزب حاكم بلا مقومات، وسقوط برنامجها الذي طرحته منذ أوسلو، افقد الحركة قدرتها على المبادرة والفعل السياسيين، وجعلها جزءاً من الأزمة.
المعوق الثاني الذي تتحمل حركة فتح مسؤوليته، هو تعطيل الديمقراطية والإصلاح. فإذا ما توقفنا عند واقع منظمة التحرير التي تقودها وتسيطر عليها حركة فتح منذ عام 1968 وحتى الآن، فإننا قد لا نختلف حول الخراب المتراكم والتشوهات التي أحالت المؤسسة الى هياكل فارغة من أي مضمون. هياكل بقيت على أنظمتها البالية كنظام «الكوتا» المحاصصة الذي عفا عليه الزمن. ونظام أبوي بقي يعتمد على الولاء والبيعة.
لم تُدخل حركة فتح أي نوع من أنواع الإصلاح على بنية المؤسسات وأدوارها، ضاربة عرض الحائط بالتحولات الهائلة داخل المجتمع والتجمعات الفلسطينية في مختلف المواقع، وغير مبالية بدخول العالم الى عصر ثورة الاتصالات والإدارة والمعلومات و»الهايتيك» والعولمة. كان من شأن استمرار البنية البيروقراطية الشائخة للمنظمة، الانفصال عن القاعدة الشعبية في مختلف اماكن تواجد الشعب الفلسطيني، وتركها تواجه مصيرها وحدها، في الوقت الذي ما زالت فيه تحتفظ بصفتها التمثيلية والرمزية المقرونة بدعم خجول وباهت للمنكوبين في العراق وسورية ولبنان وليبيا ومصر .
تتحمل حركة فتح مسؤولية الواقع المأساوي الذي آلت إليه المنظمة والذي يهدد في حال استمراره بانسلاخ مكونات أساسية عن المنظمة، والى انفراط العقد الوطني الذي جسدته المنظمة تاريخياً، وأقله غياب مؤسسة وطنية تستطيع استيعاب التعدد والتنوع على أُسس ديمقراطية.
تجربة فتح في السلطة لا تختلف كثيرا عن تجربتها في المنظمة، من زاوية عدم الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وفي حين أقر المجلس الوطني في دوراته السابعة والثامنة والتاسعة عشرة علمانية الدولة وديمقراطيتها، اعتمدت السلطة الاسلام باعتباره دين الدولة الرسمي، ومبادئ الشريعة مصدرا رئيسيا للتشريع، ولم يجرؤ أول مجلس تشريعي أغلبيته الساحقة من حركة فتح على وضع قانون أحوال شخصية وقانون عقوبات ينسجمان مع وثيقة إعلان الاستقلال الديمقراطية والعلمانية. وبقيت مخلفات القوانين الأردنية والمصرية معتمدة حتى يومنا هذا.
بدأت حركة فتح تتنافس مع حركة حماس على أسلمة مؤسسات السلطة، بعد ان تخلت عن منطلقاتها الفكرية العلمانية. وتجربة فتح في المنظمة والسلطة وثيقة الصلة بتجربة فتح الداخلية، يكفي القول أن الفترة الزمنية التي فصلت المؤتمر الخامس عن المؤتمر السادس 20 عاما فقط لا غير، ويكفي القول ان أكثرية في اللجنة المركزية تعمل جاهدة على الصعود الى موقع نائب الرئيس!