شكل السابع من أكتوبر/تشرين اول الماضي، ليس فقط مجرد صدمة لاستعلائية المؤسستين العسكرية والسياسية في اسرائيل، بل وعنوان فشل استراتيجي لكليهما على الأصعدة الأمنية والسياسية والعسكرية، ولعل الفشل الأهم قد تمثل في انهيار استراتيجية نتنياهو التي طالما استهدفت منع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة من خلال تمزيق الكيانية الوطنية وتعميق الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة .
لقد أشعلت الصدمة والفشل روح الانتقام وغريزة القتل والتدمير الكامنة في عقلية نتنياهو المريضة وأركان حكومته العنصرية وقادة حربه. ولم يكتف هؤلاء بتصريحاتهم التحريضية فقط باعتبار أن حربهم باتت وجودية، بل وباصدار الأوامر العلنية لاشباع رغبتهم الانتقامية سواء للتغطية على الفشل، سيما نتنياهو الذي وجد في هذه الحرب ضالته لاستكمال نكبة عام 1948، أو محاولة استعادة الهيبة الاستعلائية التي قذف بها وزير الحرب عندما وصف أهل غزة بالوحوش وأمر بقطع كل وسائل الحياة من طعام وماء وأدوية وكهرباء و وقود، كما سقط الرئيس هرتسوغ في وحل العنصرية التي لا ترى مدنيين في غزة. وقد نجحت اسرائيل في الأسبوع الأول من تجنيد قادة الحكومات الحليفة سيما الرئيس بايدن لترديد الأكاذيب حول اغتصاب النساء وقطع رؤوس الأطفال لتمرير "مشروعية" حرب الابادة بمحاولة "دعشنة حماس" و "شيطنة" أهالي غزة، بما ذلك الأطفال والنساء، الذين بلغت نسبتهم حوالي 74% من أعداد الضحايا التي فاقت تسعون ألفاً بين قتيل و جريح ومفقود حتى اليوم.
بغض النظر عن التباين حول الموقف من ملابسات انفجار السابع من أكتوبر، إزاء بروباجندا نتنياهو الكاذبة لما تعرض له بعض المدنيين الاسرائيليين في غلاف غزة، والحقائق التي يتم الكشف عنها تباعاً حول مدى مسؤولية جيش الاحتلال عن ذلك، وعدم حصرها في مقاتلي حركة "حماس" فقط . فقرار هذه الاخيرة الذي أعلنه قائد أركان القسام محمد الضيف في الساعة الأولى من الهجوم كان واضحاً بحظر المس بالمدنيين من قبل مقاتلي القسام . ورغم الفوضى التي شملت منطقة غلاف غزة، بما في ذلك أسر وخطف عدد من المدنيين، فقد أعلن عدد من قيادات الحركة طوال الوقت بمن فيهم نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري، الذي اغتالته اسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت، بأن هؤلاء المدنيين وصلوا لأيدي القسام في قطاع غزة بالخطأ، وأن الكتائب مستعدة لاعادتهم اذا توفر بعض الهدوء الذي يمكنهم من تنفيذ ذلك ، وربما كان من الصواب تصحيح هذا الخطأ من الساعات الأولى بتسليم المدنيين سيما من النساء والأطفال للصليب الأحمر .
"الأهداف الاسرائيلية للحرب" ،،
لعل ما تظهره المائة يوم الماضية أن هدف نتنياهو الأول، إن لم يكن الوحيد من حرب الابادة هو استمرار الحرب بلا نهاية، أو حتى توسيع رقعتها. ولعل هذا ما يفسر تعويمه لاهداف الحرب المعلنة بين اجتثاث "حماس" وتفكيك كل من قدرتها العسكرية وحكمها لغزة، ورغم اعتبار استعادة الأسرى والرهائن من العسكريين والمدنيين كهدف أول، إلا أن وقائع الحرب في الميدان تؤكد أن ذلك، وبالاضافة لاستحالة تنفيذه بغير التفاوض، لم يكن سوى محاولة لاحتواء حركة المطالبة باستعادتهم، والتي امتدت للمطالبة بوقف الحرب وتدعو لعقد صفقة تبادل بأي ثمن.
الحرب و تحولات الرأي العام:
أولاً: المجتمع الاسرائيلي
شهدت المائة يوم من مجريات الحرب تحولات هامة على الرأي العام في اسرائيل، والذي بدأ يجاهر بمطالبته لإقالة نتنياهو وصلت إلى اعتبار الرئيس الأسبق لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي دان حالوتس، أن النصر الوحيد الممكن تحقيقه من الحرب على غزة سيكون "إزاحة" نتنياهو عن منصبه، وكذلك توقيع مائة وسبعين من المسؤولين الأمنيين السابقين عريضة تدعو إلى إجراء انتخابات فورية لاستبدال القيادة السياسية في ظل الأوضاع الجارية والحرب على قطاع غزة، ولم تقتصر هذه التحولات على الرأي العام بل امتد الخلاف بين أقطاب الحكومة ، بالاضافة إلى الشرخ بين القيادتين السياسية والعسكرية بفعل محاولات نتنياهو المستميتة لالقاء مسؤولية الفشل على قادة الجيش ومرة أخرى لحماية استمراره في الحكم .
ثانياً: على الصعيد الدولي ،،
هذه التحولات اخترقت الساحة الدولية بصورة غير مسبوقة، فما زالت الانتفاضة الشعبية الكونية متواصلة في مختلف مدن وعواصم دول القرار الدولي، بما في ذلك في الولايات المتحدة التي أصبحت معزولة على صعيد مجلس الأمن، في وقت أن لندن وباريس سارعتا لتغيير مواقفهما، وبدأ الإتحاد الأوروبي يدعو لوقف اطلاق النار كوسيلة وحيدة لانقاذ مأساة الأبرياء في غزة، كما أن واشنطن ورغم استمرار موقفها برفض وقف اطلاق النار، إلا أنها بدأت تتحدث علناً عن استحالة اجتثاث حماس وقدرتها العسكرية بصورة كاملة، وبدا التباين بين مواقف واشنطن وتل أبيب ازاء مجريات الحرب واضحاً، سيما ما يتصل بالتهجير والمساعدات الانسانية وعدم المس بالمدنيين، رغم أن ذلك لم يوقف دعم واشنطن العسكري والسياسي، هذا بالاضافة للخلاف الجوهري بينهما حول مستقبل القطاع الذي تريده واشنطن جزءاً لا يتجزأ من الكيانية الفلسطينية في سياق ما باتت تسميه انعاش السلطة الفلسطينية، الأمر الذي ما زال يرفضه نتانياهو بصورة واضحة.
ثالثاً: جلب اسرائيل لمحكمة العدل الدولية ،،
خطوة جنوب أفريقيا بجلب اسرائيل لمحكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الابادة الجماعية قد تشكل لحظة تاريخية فارقة، ليس فقط لوقف الحرب وفق الطلب الاحترازي الجنوب أفريقي، بل وربما لفتح مسار سيادة العدالة الدولية للحقوق الفلسطينية التي ظلت حبيسة أروقة المجتمع الدولي منذ النكبة. ويأتي ذلك أولاً بفعل الصمود الأسطوري أمام آلة حرب الابادة الإسرائيلية، وما يشهده الرأي العام من تحولات بفعل الفظاعات التي يرتكبها جيش الاحتلال .
لقد كشفت هذه الحرب حالة الضعف على الصعيدين العربي والاسلامي، فرغم قرار القمة "العربية والاسلامية"المشتركة، والتي دعت ضمن أمور أخرى لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة، إلا أن تدفق المساعدات ظل رهينة الخطة العسكرية الاسرائيلية، والتي توجها الفريق الاسرائيلي في محكمة العدل الدولية بتحميل مصر المسؤولية عن عدم دخول تلك المساعدات، الأمر الذي تفضحه مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى والرهائن، والتي تضمنت موافقة اسرائيل على ادخال مئة شاحنة يومياً، و كذلك المطالبة الأميركية الدائمة لنتنياهو بزيادة تدفق المساعدات . هذا الأمر، وفي وقت أنه يكشف عنجهية اسرائيل أمام الحالة العربية، فهو يستدعي رداً عملياً بادخال تلك المساعدات مباشرة من معبر رفح دون خضوع للابتزاز الاسرائيلي.
مخططات التهجير ،،
منذ بداية العدوان تعالت دعوات المسؤولين الاسرائيليين للتهجير الجماعي، الأمر الذي رفضته مصر، وكذلك الأردن، مما دفع اسرائيل لبناء خطتها العسكرية بما يخدم التهجير تدريجياً من الشمال إلى الوسط ثم إلى الجنوب وجنوب الجنوب في رفح في محاولة لفرض أمر واقع تحت وطأة تدمير كل مقومات الحياة يؤدي إلى ما تسميه اسرائيل "الهجرة الطوعية"، وما زال ذلك يعتبر أبرز الأهداف غير المعلنة للحرب، وفي هذا السياق تأتي مخططات اسرائيل للسيطرة على محور فيلادلفيا ومعه معبر رفح الحدودي لاحكام الحصار على القطاع ، والتحكم بآلية ادخال المواد اللازمة لاعادة الاعمار وعرقلتها الأمر الذي سيدفع بالكثيرين للمغادرة.
الموقف الفلسطيني ،،
يبقى السؤال الأهم حول مستقبل الحرب ومعه مستقبل القطاع، بل ومستقبل القضية الفلسطينية برمتها يكمن في العامل الذاتي الفلسطيني، فرغم حالة الصمود الأسطورية أمام شراسة العدوان، ورغم الخسائر الفادحة بل والكارثية التي لحقت وما زالت تلحق بشعبنا في القطاع، إلا أن الملفت، ورغم أنه على مصير الحرب سيتحدد مستقبل القضية الوطنية إن لم يكن الوجود الفلسطيني، وما يحمله ذلك من مخاطر قد تبدد كل تلك التضحيات الهائلة، إلا أن هذا المشهد بكل تداعياته لم يحدث التغيير المطلوب لجهة الانتصار لغزة المدماة بما بات واضحاً أنها حرب ابادة، فما زالت الأطراف المهيمنة على المشهد الفلسطيني متخندقة إلى حد كبير حول مواقفها السابقة ازاء الحاجة للوحدة وانهاء كل تداعيات الانقسام الذي شكل دوماً "دفرسوار " محاولات اختراق وتصفية الحقوق الفلسطينية عبر خطة الضم في الضفة، وعزل غزة عن الكيانية الوطنية. لم تعد الوحدة سيما بعد هذه الحرب مجرد حاجة لترميم و دمقرطة المنظومة السياسية الفلسطينية على صعيد المنظمة والسلطة ، بل فقد باتت حاجة وجودية لمواجهة مخططات اسرائيل التصفوية، وفي مقدمتها الضم والتهجير . فهل لدى القيادة المتنفذة من بديل غير الاسراع في توحيد الموقف الوطني لاستنهاض القدرة على مواجهة وافشال هذه المخططات؟ وهل لديها بديل عن استعادة الطابع الائتلافي للمنظمة غير انضمام القيادتين السياسيتين لحماس والجهاد لهيئاتها القيادية كي تصبح فعلياً هيئات لصنع القرار الوطني وليس مجرد ديكور أو هيئة استشارية لا يؤخذ حتى برأيها؟ هل من بديل عن قرار وطني شامل لتشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني، تقطع الطريق على أوهام نتنياهو بعزل غزة عن الضفة وفي قلبها القدس والمقدسات؟ هل من بديل عن مثل هذه الخطوات لاعادة الأمل لأيتام غزة ونسائها الثكلى والأرامل ومن تبقى من عائلاتهم، واشعال ولو بصيص من هذا الأمل في نفوس أهل القطاع بأن تضحياتهم لن تذهب هدراً؟ هل من بديل عن حكومة وطنية قوية ومدعومة من شعبها ومن الكل الوطني لوضع أولوية اعمار غزة وافشال مخططات التهجير، وتوفير مقومات الصمود التي تعين الناس على البقاء ؟ إن كان لديكم بديل عن ذلك غير الصمت والانتظار فلتشهروه، لأن الوقت من دم وأرواح تُباد وقضية قد تتبدد .
والسؤال الأخير للمجتمع الإسرائيلي هو: بعد أن جربت حكوماتكم المتعاقبة كل أشكال الحروب ضد شعبنا الفلسطيني، وآخرها حرب الابادة المستمرة بحجة ضمان أمنكم وسلامتكم، فهل جلبت هذه الحروب لكم ولشعبنا غير الويلات والضحايا ؟ متى ستعترفون بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني وبحقوقه الوطنية كاملة، وبما يشمل حقه في تقرير مصيره وبناء مستقبله، والعيش بحرية وكرامة وسلام على أرض وطنه كباقي شعوب الكون ؟!