عطفا على المقال السابق، لو كانت إسرائيل شركة تجارية سنكون أمام انهيار لأسهمها في البورصة بلا شك. فقد ظهرت كدولة مهانة مضروبة تم اقتحامها من قبل قوة محلية صغيرة وفقدت هيبتها، وحين حاولت استعادتها ذبحت المدنيين وارتكبت إبادة جماعية لتفلس أخلاقياً أمام العالم وأهمه الرأي العام الدولي الذي خرج للشوارع مصدوما مما تفعله هذه الدولة، في حالة انكشاف للثقافة القائمة في تلك الدولة والتي تتنافى مع قيم العدالة والإنسانية.
في اليوم الأول للحرب، كانت الدولة التي توهم العالم والعرب بفائض قوتها تطلب الحماية، كما يفعل الرئيس الفلسطيني في الأمم المتحدة، وإذا كان الأخير يقود شعباً أعزل في مواجهة دولة مدججة كانت أزمة إسرائيل التي قالت «احمونا» أنها قدمت نفسها دولة تملك من فائض القوة ما يجعلها تعرض خدمات البلطجة والحماية على دول عربية.
كانت إسرائيل على درجة من الغطرسة بحيث لم تر بالفلسطينيين سوى بقايا شعب بلا قضية، ولديه على نمط سموتريتش خيارات الرحيل أو الهجرة أو القتل أو القبول كعبيد وخدم للدولة «العظمى». هكذا كانت ترى نفسها، وللحظة كاد العالم والعرب يصدقون وهم يتقاطرون تطبيعا لتتم إزالة الملف الفلسطيني من جدول أعمال الجميع لدرجة بقي نقطة هامشية ليس أكثر بأنهم يعكرون صفو التطبيع، ويجب ألا يأخذهم أحد على محمل الجد.
وفجأة يجد الإسرائيلي، الغارق في وهم القوة، الفلسطيني في غرفة نومه بضربة أفاقت العالم، وأزاحت كل الملفات الدولية بما فيها الحرب الكونية في أوكرانيا التي خلخلت اقتصاد العالم وضربت الطبقة الوسطى وتداعياتها الهائلة على المجتمعات ومست بالاقتصاد الكوني. كل هذا تلاشى أمام الصراع الحقيقي مع الفلسطينيين الذين قلبوا الطاولة وجلسوا على رأسها من جديد كحالة تشكل أولوية للسلم الدولي. فقد حركت قضيتهم حاملات الطائرات والغواصات النووية، وجاء الحوثي ليهدد الاقتصاد العالمي وشريان الحياة. هكذا هي فلسطين.
«ثبت أن إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها» هكذا قالت الولايات المتحدة، وهذه أعظم نتيجة لهذه الحرب رغم المذابح التي قصمت ظهر الشعب الفلسطيني ورحلة النزوح والمعاناة الإنسانية التي لا يحتملها العقل البشري. لكن كل تلك المعاناة أيضا أعطت شهادة على أن إسرائيل دولة مارقة لا ينبغي التعامل معها باحترام حيث تمتلئ الشوارع في أوروبا رفضا واستنكارا وتقززا مما تفعله دولة تتحول أو تنكشف أنها المهدد الأكبر للسلم العالمي، وذلك لأن الغطرسة والسلاح كانا مرشد وموجه سياسة إسرائيل لتجد نفسها تنكسر، وكان واضحا أن الوعي العالمي يحتاج لضربة قوية ليعيد الاعتبار لواقعية السياسة.
عملت إسرائيل وسياسيوها ومفكروها من أساطين الأمن القومي كل شيء لتغييب الملف الفلسطيني وهدر حقوقه، وذلك بالهروب من مفاوضات وبصناعة انقسام متكئ على سذاجة الفلسطيني الذي قَبِل أن يستمر كل هذا الوقت مستخدمين كل ما لديهم من قوة وعلاقات إقليمية حد استدعاء أطراف عربية للمشاركة في اللعبة، وجروا العالم للمصادقة على برنامجهم الذي أحرق أصابعهم ووجوههم وهيبتهم. فقد انقلب السحر على الساحر وعليه أن يدفع الثمن ومن المثير أن يقول الاتحاد الأوروبي إن إسرائيل مولت حركة حماس في مواجهة حركة فتح وتلك نهاية الفهلوة.
السياسة ابنة مناخات وتلك تظهر فيها إسرائيل أقل كثيرا من وزن ما قالت عن نفسها، ويبدو أن المتفرجين على السياسة في العالم بدؤوا يدركون خطورة ترك اللجام لها لتقود الأحصنة لأنها على وشك أن تغرقها في البحرين الأحمر والمتوسط. تلك هي مكانة وموقع إسرائيل وصورتها الجديدة ومهما حاولت لن تغير منها حتى لو دمرت غزة كلها وقد فعلت وللمصادفة كلما زاد التدمير تلاشت مكانة إسرائيل أكثر، تلك هي معادلة الحرب رغم فداحة الخسارة.
كان لافتا أن يقول الرئيس الأميركي، إن هناك دولا في الأمم المتحدة ليس لديها جيوش ما يعني أنه يناقش تفاصيل، وكان لافتاً أيضا تصريح رئيس حزب العمال البريطاني كير ستارمر بأن الدولة الفلسطينية ليست هدية، فهناك رأي عام رسمي بدا كأنه يلتحق بالحالة الشعبية التي تندفع للشوارع مطالبة بوقف الحرب فورا وإنهاء الاحتلال، رغم إدراك الجميع أن ما يفعله الرئيس الأميركي الشريك الكامل في الحرب على الفلسطينيين مجرد محاولة لتدارك الانتخابات التي ستلقي به للشارع. فالمؤمن لا يلدغ من واشنطن مرتين لكن تلك اعترافات لا ينبغي تجاهلها فهي جزء من إعادة صناعة الموقف الدولي الذي تقزمت إسرائيل بنظره.
لا يمكن القفز عن الموقف العربي بإعلانه رفض المساهمة في إعادة الإعمار بدون دولة فلسطينية، والشرط السعودي للتطبيع بإقامة الدولة. ولا يمكن إغفال دور «حزب الله» والخشية الأميركية من أن يورطها الغباء الإسرائيلي في حرب تتجنبها، والحوثيين. كل تلك عوامل تجمعت لتقزيم إسرائيل سياسيا وعسكريا، كل هذا أعاد وضع إسرائيل في حجمها الجديد الصغير .... فقد بات يركلها الجميع.
الأهم أن الحروب الكبرى تنتج سياسات كبرى، فما الذي أنتجته هذه الحرب؟ الكثير الذي على إسرائيل أن تتجهز لدفع ثمنه وللمنتصر أن يفرض شروطه. وفي هذه الحرب لم تنتصر إسرائيل بل أصيبت في قلبها وعقلها وروحها وأخلاقها وصورتها الدولية إصابات مباشرة، والعالم يتفرج ويصنع نظرياته ويعيد فك وتركيب سياساته. فقد ظهرت إسرائيل كدولة متوحشة مخالفة للقيم الإنسانية ما يؤهلها كدولة منبوذة بجدارة .... خليط من القوة والغطرسة واحتقار الآخر والأيديولوجيا والهذيان والإنكار ومحاولة معاندة التاريخ، كل هذا ينكشف في الشوارع وفي أروقة السياسة أيضا.