حـل «الـدولـة ونـص»

تنزيل (2).jpeg
حجم الخط

بقلم د علي الجرباوي

 

 

«ترافق مع تصاعد حدّة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والدعوات متعددة الأطراف لضرورة إنهائها، العودة للمربع الأول بشأن التسوية السياسية للصراع، المتمثل ببزوغ مبدأ «حل الدولتين» مجدداً، بعد أن غاب عن التداول لقرابة عقدٍ من الزمن. كان هذا المبدأ هو الأساس الذي بُني عليه «اتفاق أوسلو»، ويقوم على قاعدة اعتراف متبادل بحقوق الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وإنهاء الصراع بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ولكن رغم الاعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل وضمان وجودها الآمن، لم تتحقق خلال العقود الثلاثة الماضية إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة والمأمولة. ويعود السبب الرئيس في الإخفاق، إلى تسليم المجتمع الدولي بإخضاع قيام هذه الدولة إلى الرؤية الإسرائيلية المقيدة لها، ضمن شروطٍ جعلت من القبول الفلسطيني بها لا يُنتج للشعب الفلسطيني سوى تحويل السيطرة الإسرائيلية عليهم بفعل الاحتلال، إلى سيطرة دائمة مستترة تحت عنوانٍ برّاقٍ هو «الدولة الفلسطينية»، ولكن المنزوعة «الدسم».

لا بأس إن تمّ الاعتبار فلسطينياً أن عودة طرح مشروع «حل الدولتين»، بقوة، كأساس للتسوية السياسية للصراع، وتحبيذ هذا المشروع من قبل مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الإدارة الأميركية الحالية والاتحاد الأوروبي، هو أمر إيجابي. فهذه العودة تثبت أن استمرار التغاضي عن الحقوق الفلسطينية وتهميش القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق معه الاستقرار في المنطقة، ما يعني أن «حل الصراع»، وليس مجرد الاستمرار في «إدارة الصراع»، أصبح أمراً يحظى بمقبولية أكبر في العواصم الإقليمية والدولية المؤثرة. ولكن، مع ذلك، يجدر ضرورة عدم تضخيم شأن هذه العودة، ورفع التوقعات الفلسطينية منها، وكأن اختراقاً مختلفاً ومغايراً لما كان عليه الوضع في السابق قد حصل، وسيتأتى عنه هذه المرّة مسعى حقيقي وجدّي لإقامة الدولة المقبولة فلسطينياً. فمع أن التصريحات بضرورة إيجاد تسوية وفقاً لمبدأ «حل الدولتين» تتوالى من كل حدب وصوب، إلا أنها لم تفارق حتى الآن الإطار المفاهيمي الناظم (البرادايم) لتطبيق هذا المبدأ، الذي حكم تصرفات هذه الجهات منذ بداية طرحه، وترسيمه في «اتفاق أوسلو». ويمكن تلخيص هذا الإطار بالنقاط التالية:
أولاً، لا يقوم الإطار المفاهيمي لـ «حل الدولتين»، عند دول التحالف الغربي الضامن لوجود وأمن إسرائيل، وعلى رأسه أميركا، على مركزية وجوب الاعتراف المباشر والمطلق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؛ بإنهاء الاحتلال والحصول على الحرية والاستقلال، كجزء أصيل من الحق الطبيعي الذي يجب أن يتمتع به كباقي شعوب العالم. بل يقوم هذا الإطار على مركزية إسرائيل، وضمان وجودها وأمنها، كدولة يهودية وديمقراطية، ما يستدعي الاضطرار لإقامة «دولة فلسطينية» تخلّصها من استمرارية فقدان للأمن وأسس الحكم الديمقراطي في المستقبل. إن إنشاء دولة فلسطينية، وفقاً لهذا الإطار المفاهيمي، يأتي من باب تحقيق المصلحة الإسرائيلية، وليس إحقاقاً للحق الفلسطيني.
ثانياً، لأن الحق الفلسطيني تابع للمصلحة الإسرائيلية، فقد أعطت دول التحالف الغربي، إسرائيل الحق الحصري لتعريف «الدولة الفلسطينية» التي تريد، ومارست الضغط تارة، والإهمال تارة أخرى، على الجانب الفلسطيني ليقبل بما تريده إسرائيل. وهنا يجب التذكير بأن نتنياهو ليس المُعطّل الإسرائيلي الوحيد لوجود دولة مستقلة وسيادية «أخرى غرب النهر»، بل كل الحكومات الإسرائيلية، منذ «اتفاق أوسلو» وحتى الآن. فرابين، الشريك في «سلام الشجعان» والذي قضى اغتيالاً بتهمة التفريط بالحق والمصلحة الإسرائيلية، لم يكن مستعداً لقبول أكثر من «دولة ناقص» للفلسطينيين، تكون منقوصة السيادة والمساحة ومنزوعة السلاح. أما نتنياهو، الذي كان وما يزال على رأس الهرم السياسي في إسرائيل خلال ربع القرن الماضي، فقد كبّل «حل الدولتين» بشروطٍ لا تزال سارية حتى الآن، وهي: احتفاظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية الكاملة على كل المنطقة الجغرافية غرب النهر، لا سيادة لدولة أخرى غرب النهر، لا عودة لحدود عام 1967، لا لتقسيم القدس، لا إيقاف للاستيطان، لا حق عودة للفلسطينيين إلى إسرائيل، هذا بالإضافة إلى ضرورة الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية. وفقاً لهذه الشروط، فإن نتنياهو مستعد لقبول حكم ذاتي موسع للفلسطينيين، أطلق عليه تعبير «حكم ذاتي +» أو حتى «حكم ذاتي ++». ويدر التنويه إلى حقيقة أنه مع بعض التحويرات «التجميلية» لتلك الشروط، فإن أغلبية عريضة في إسرائيل، المتجهة منذ عقود باتجاه اليمين، توافق عليها.
ثالثاً، نتيجة للنقطتين السابقتين، لم تقم الإدارات الأميركية المتعاقبة، التي تقف على رأس التحالف الغربي، والمحتكرة لملف التسوية السياسية للصراع، بممارسة أي ضغط فعال وذي جدوى على إسرائيل لتغيير موقفها من «الدولة الفلسطينية» المنشودة والقادرة على حل الصراع، ما أدى به إلى الاستمرار. بل قامت هذه الإدارات بتقمّص دور الوكيل الحامي لرؤية إسرائيل، وأخذت بالدفاع عن هذه الرؤية في مسارٍ ركّز على «إدارة الصراع»، ليبقى صراعاً منضبطاً وخفيض الوتيرة. قبلت تلك الإدارات وحليفاتها فرض إسرائيل فصل الضفة عن القطاع، واستمرارها بعملية ممنهجة لتهويد القدس والضفة، والقضم المستمر للأرض الفلسطينية، وبدأت تتحدث عن «دولة فلسطينية ’متصلة'«. وبهذا بدأ السقف الدولي لهذه «الدولة» يوائم نفسه ليس فقط مع الاشتراطات الإسرائيلية المتعلقة بإقامتها، وإنما مع الخطوات العملية الإسرائيلية على الأرض، والتي تحول فعلياً من إمكانية إقامتها. ويجدر ألا يتم التغاضي عن أن ما قام به الرئيس الأميركي السابق من اعتراف بضم القدس إلى إسرائيل، وما أعلن عنه من صفقة القرن التي تعطي الفلسطينيين «دولة بقايا» تتشكل من معازل محصورة ومحاصرة، هي التعبير عن الإذعان للموقف الإسرائيلي.
رابعاً، أن الخلاف الحاصل حالياً بين إدارة بايدن ونتنياهو هو خلاف تكتيكي وليس استراتيجياً، لا يتعلق باختلاف الرؤى حول الأهداف المشتركة التي تجمع أميركا بإسرائيل، بل يقف عند حدود التذمر الأميركي من المنهجية التي يتبعها نتنياهو وحكومته اليمينية الحالية. فالإدارة الأميركية، رغم انتقادها لإسرائيل بسبب العدد الكبير للضحايا المدنيين جرّاء حملتها عل قطاع غزة، ما تزال حتى الآن ترفض الدعوات المتصاعدة المطالبة بوقف إطلاق النار، وتؤيد استمرار الحرب، ولكن بوتيرة مختلفة. أما مطالبتها بتفعيل «حل الدولتين»، وإقامة «الدولة الفلسطينية»، فهو ما زال محكوماً لذات الإطار المفاهيمي القديم والمتواصل. يُستدل على ذلك من التصريحات التي أدلى بها الرئيس بايدن قبل يومين، بعد إجرائه مكالمة هاتفية مع نتنياهو، جرت بعد انقطاع للتواصل المباشر بينهما امتد على مدى ثلاثة أسابيع. يتضح من تلك التصريحات أن الرئيس الأميركي خفضّ من سقف مطالبه، وقبل برؤية نتنياهو للـ «الدولة الفلسطينية» المرتقبة. قال بايدن أن « حل الدولتين ليس مستحيلاً بوجود نتنياهو في السلطة»، متابعاً أن «ثمة أنماط عدة لحلول على أساس دولتين،» فهناك «بلدان أعضاء في الأمم المتحدة ليس لديها جيوشها الخاصة بها». ومع أنه تغاضى عن ذكر الأسباب التي حدت بتلك الدول للتخلي عن وجود جيش لها، وعن إن كانت مرغمة على ذلك إرغاماً، فإنه استخدم مقاربة غير سليمة لتبرير أهم اشتراط إسرائيلي لقيام دولة فلسطينية، وهو حرمانها من السيادة.
وأخيراً، يؤكد الجانب الأميركي على أنه يعي أن الفارق الزمني بين مطالبته بتفعيل حل الدولتين وتنفيذ هذه المطالبة سيستغرق مدة زمنية طويلة، وستتطلب من الجانب الفلسطيني التقيد بتنفيذ شروط عديدة، مطلوبة لإعادة التأهيل كطرف يكون قادراً ومقبولاً على إسرائيل والتحالف الغربي لتولي المهمة. بعد تحقيق ذلك، ستكون هناك إمكانية للذهاب باتجاه تنفيذ «حل الدولتين». وبما ان أميركا ستكون من الآن وصاعداً منهمكة في الحملة الانتخابية الرئاسية، ولأن احتمالية عودة ترامب للبيت الأبيض مرتفعة، فإن أقصى ما في الجعبة الأميركية ستكون «صفقة القرن». هذه الصفقة التي تريد حل الصراع ليس على أساس «حل الدولتين»، وإنما على أساس «حل الدولة ونص».