الاغتيالات في ميزان الردع الإسرائيلي

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

بالعودة إلى التهديدات الإسرائيلية لـ"حزب الله" تحديداً، وكذلك للبنان عموماً، والتي أطلقتها إسرائيل مباشرة بعد تدخل الحزب في حرب إسنادٍ معلنة، ما فوق الصفر بكثير، وما دون اندلاع حربٍ شاملة، أو تصعيدٍ كبير بقليل فقط.. بالعودة إلى تلك التهديدات، والتي بدت في مراحل معيّنة وكأنّها إنذارات نهائية وأخيرة يلاحظ أنّها في كثيرٍ من الأحيان لم تكن سوى فرقعات إعلامية، وأنّ القرارات الإسرائيلية بتدمير لبنان، والقضاء على "قوّة الرضوان"، أو إجبارها على تموضعها شمالاً، أي ما بعد "الليطاني" لم تكن سوى لقياس ردود الأفعال، ولاختبار مدى إصرار الحزب على الانخراط في الحرب، ومدى عزمه على خوضها حتى النهاية إذا ما تطلّب الأمر.
وفي ظلّ عدم رغبة الولايات المتحدة، و"الغرب" كلّه بتوسيع نطاق الحرب، والخوف من أن يؤدّي هذا التوسيع إلى حربٍ إقليمية شاملة، والتي ستكون بمثابة حربٍ عالمية مكتملة الشروط والمحدّدات، لم يكن أمام إسرائيل في حالة كهذه سوى القبول بقواعد الاشتباك التي فرضتها الأحداث، ولم يعد أمامها سوى الانصياع لهذه الشروط.
مقابل المعادلة الجديدة التي فرضها "حزب الله" على قواعد الاشتباك لجأت إسرائيل إلى اغتيال صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، في خطوةٍ بدت وكأنّها اختراق هائل لقواعد الاشتباك، بالرغم من أنّ إسرائيل "حرصت" على التأكيد على أنّ هذا الاغتيال ليس موجّهاً للحزب، وأنّه يأتي في سياق الردّ الإسرائيلي على "طوفان الأقصى".
وسرعان ما تخلّت إسرائيل عن "حرصها" في حادثة اغتيال العاروري وذهبت إلى مزيدٍ من الاغتيالات لكوادر الحزب، ولقيادات وازنة لـ"الحرس الثوري" الإيراني في العاصمة السورية.
ردّ الحزب وردّت إيران، وقد تمكّن الحزب على ما يبدو من أن يضرب بقوة قاعدة "ميرون" العسكرية على الجرمق، وضرب قيادة منطقة الشمال في صفد، وردّت إيران بتدمير مقر لـ"الموساد" في كردستان العراق، واستهدفت سفناً إسرائيلية في المحيط الهندي، وأوعزت إلى جماعاتها بضرب مركّز على قاعدة "عين الأسد" بصورةٍ مؤثّرة هذه المرّة، وهو ما يعني أنّ الاغتيالات قد دخلت على قواعد الاشتباك من الجانب الإسرائيلي، وأنّ الردود على هذه الاغتيالات ستتصاعد تباعاً.
علينا أن نعترف من خلال متابعة سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية أنّ إسرائيل تتفوّق كثيراً في هذا النطاق.
ويبدو أنّ الأمر لا يقتصر على امتلاكها لأحدث التقنيات الدقيقة لمثل هذه العمليات، وإنّما المعلومات الهائلة التي لديها حول الأهداف، وزخم كبير لفعالية شبكات متكاملة في سورية ولبنان تعمل بفعالية، وهي تصول وتجول، ولديها قواعد إسناد وارتكاز ليست فنية فقط، وإنّما سياسية، أيضاً.
تستطيع إسرائيل حسب بعض التقديرات أن ترسم صورة "انتصار" إذا ما نجحت في "اصطياد" مزيدٍ من القيادات، وتستطيع عند درجةٍ معينة من تعمّق هذه الاستراتيجية من الاغتيالات أن تضمن لنفسها البقاء في منطقة حافّة الهاوية، وهي المنطقة الوحيدة حسب تلك التقديرات لـ"تعويم" الانتصارات، وابتزاز "الغرب" كلّه، بل وابتزاز كلّ الإقليم، ليس للظهور فقط بمظهر المقتدر، بعد أن تحطّمت صورة الاقتدار، وإنما إعادة الاعتبار لواحدٍ من أهمّ وأخطر المجالات الذي أطاحت به قوات "القسام"، عندما تجاوزت كلّ الحواجز الإلكترونية، وعندما دمّرت في الساعات الأولى من "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل كلّ قدرة إسرائيلية على متابعة تلك الساعات الحاسمة من العملية.
لم تعد إسرائيل قادرة على الافتخار بدبّابة "ميركافاه"، ولا بناقلة الجند "نمر"، وذلك لأنّ كلّ ما عدا ذلك من أسلحة هي أسلحة أميركية بما في ذلك ذخائر "باتريوت" وقذائف "175".
الانهيار الأكبر كان في تقنيات وأجهزة المراقبة والتتبُّع، وسياسة الاغتيالات هي المجال الأهمّ الذي من خلاله تريد إسرائيل أن تعيد الاعتبار لتقنيّاتها "المغدورة".
ليس هذا فقط، وإنّما أكثر وأبعد كثيراً من ذلك، وذلك لأن أحد فروع "التطبيع" كان هذا الاقتدار الإسرائيلي، وقد سوّقت إسرائيل لدول الإقليم أنّها تتفوّق حتى على أهمّ وأكبر البلدان "الغربية"، وأحياناً كانت بعض الأوساط الإسرائيلية تلمح إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية نفسها باتت تعتمد تلك التقنيّات الإسرائيلية المتفوّقة.
وهناك لاستراتيجية الاغتيالات وجهٌ آخر.
إسرائيل العالقة في رمال غزّة، والتي أخفقت حتى الآن في تحقيق أيّ من أهداف الحرب المعلنة، والتي فشلت فشلاً كبيراً في تتبُّع قيادات "القسّام" والقيادات الأخرى، ويبدو أنّ شبكاتها في القطاع كانت قد تلقّت ضربات قاصمة على مدى زمني طويل وفي إطار منهجي منظّم، وإسرائيل العالقة هناك تحتاج إلى موجة أكبر من المقاييس الحالية لهذه الاغتيالات، بحثاً عن تلك "الصورة" وقد تذهب إلى أخطر وأبعد في هذا المجال.
لا أحد بمقدوره توقّع الأهداف، ولكن اغتيال قادة "حماس" السياسيين في الإقليم العربي ما زال قائماً على جدول الأعمال، وخصوصاً إذا ما تمّ إغلاق ملفّ الأسرى الإسرائيليين.
الاغتيالات في العراق تتولّاها الولايات المتحدة، وقد تصل الأمور إلى اغتيال قيادات عسكرية وازنة في اليمن، تقوم بها، أيضاً، كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنّ إسرائيل ستقوم باغتيالات خاصة في هذين البلدين، وقد تعتبر أنّ توريط الولايات المتحدة وبريطانيا بالحرب الإقليمية يمكن أن تكون الاغتيالات مدخلها المناسب لها.
سياسة الاغتيالات جوبهت حتى الآن بردود عسكرية، وهي ليست من النوع الشكلي أبداً، لكنّ ردود الأفعال على تلك السياسات قد تتطوّر بصورةٍ دراماتيكية كبيرة عند درجةٍ معيّنة من تطوّر الأحداث، وقد تكون إحدى مفاجآت هذه الحرب هي تطوّر ردود الأفعال عن تلك السياسات، والسبب هنا واضح أشدّ الوضوح، فإذا وصلت ردود الأفعال إلى "إيلام" إسرائيل جدّياً فإنّ كلّ الصور التي تبحث عنها ستتبخّر، وهذه تعتبر كارثة جديدة من سلسلة الكوارث التي تلاحق القيادات الإسرائيلية، وهي ــ أي القيادة الإسرائيلية ــ ستذهب إلى ما هو أبعد من حدود عالية لقواعد الاشتباك، وقد تصل مباشرة إلى المغامرة بالحرب الشاملة.
صحيح أنّ إسرائيل عاجزة كما يبدو حتى الآن عن أن تقاتل بصورةٍ جدّية في حربٍ شاملة كهذه، ولكنّ الصحيح، أيضاً، أنّ القيادات الإسرائيلية وصلت إلى حواف اليأس والشعور بالإحباط الكبير.
حسابات القيادات الإسرائيلية ليست فقط متسرّعة، ومتهوّرة، وإنّما وصلت إلى حدود نفسية المقامر الذي سيلعب بكلّ ما يملك أملاً بتعويض الخسارة، وهذا أخطر ما في الأمر.