يوماً تلو الآخر تتضح مخططات حكومة الاحتلال بفرض ما تسميه " التهجير الطوعي"، والذي هو في الواقع هدفاً استراتيجياً لحكومة عصابة الحرب، من خلال تدمير وتجفيف كل مصادر حياة الفلسطينيين في قطاع غزة. فالعدوان الاجرامي يتأرجح بين هدفي الابادة والترانسفير الجماعيين. ورغم ما يبدو أنه تراجع اسرائيلي لفظي عن الترحيل الجماعي، إلا أن وقائع الحرب واستمرار جرائم الابادة التي طالت حياة ما يقارب المئة ألف فلسطيني بين شهيد ومفقود وجريح إصابات الكثير منهم خطرة، وقد تؤدي بسبب ذلك لوفاة ما لا يقل عن ثلث الجرحى وفقاً لتقديرات الجهات الصحية، سيما في ظل التدمير شبه الكامل والمستمر للمستشفيات القادرة على التعامل مع بعض الاصابات الخطرة، وانعدام الامكانيات الطبية فيما تبقى منها، هذا بالاضافة لتهجير ما يزيد على 90% من السكان، والذي ما زال مستمراً، فبعض العائلات تهجرت لثلاث أو أربع مرات دون أن تجد مأوى أو مكاناً بعيداً عن خطر الموت .
التدمير بهدف التهجير ،،
هذه الأرقام غير المسبوقة والتي تشمل ما لا يقل عن 70% من الأطفال والنساء، وما رافقها من تدمير معظم وسائل الحياة الضرورية لشعب فقد الأغلبية الساحقة من مأواه السكني وبنية مجتمعه التحتية من مدارس ومشافي وعيادات ومؤسسات خدماتية أهلية وحكومية، وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، ويُفرض عليه حصار غذائي ودوائي واحتياجات الوقود، إلا بالقدر الذي لا يتعارض مع خطة الحرب الاسرائيلية التي تستهدف كل ما يُمكّن الناس من البقاء. وفي هذا السياق كانت وما زالت خطة الترانسفير الداخلية من الشمال إلى لجنوب وفق مخططاتها العسكرية، ليس بهدف ما تدعيه من توفير أماكن آمنة، فلا مكان آمن على الاطلاق في القطاع، بل بما يدفع المدنيين والعائلات الفلسطينية من التجمع في أقصى الجنوب على الحدود المصرية في مدينة ومخيم رفح، تمهيداً وحسب معطيات اللحظة دفعهم "قسراً بالقوة" أو ما تسميه "طوعاً "بفعل الأمر الواقع التدميري نحو سيناء .
دعوات جادة لاعادة استيطان غزة ،،
مخططات التهجير هذه بدأت تترافق، ليس مع مجرد دعوات متناثرة لاعادة استيطان القطاع، بل وصلت حد تجمع القوى الاستيطانية العنصرية في المجتمع الاسرائيلي، والتي باتت تتحكم في مسار السياسة الرسمية وتُحكم القبض على عنقها، لعقد مؤتمر علني في ما يسمى "مباني الأمة" في القدس المحتلة لبلورة خطط عملية لتنفيذه، دون أي صوت يعترض أو يرفض ذلك بشكل واضح.
القديم الجديد لشطب "الأونروا" ،،
في وسط هذا الاندفاع نحو ما يقوم به نتانياهو وعصابته من استمرار للحرب التدميرية واعاقة دخول المساعدات الانسانية، جاء الاعلان عن قرارات تجميد دعم الدول الأكثر دعماً "للاونروا" بحجة تعاطف عدد أصابع اليد من موظفي الوكالة مع حركات المقاومة، ورغم ما اتخذه كل من الأمين العام للأمم المتحدة غوتريتش ومفوض الأونروا لازاريني من اجراءات فصل مجحفة لتسعة من هؤلاء الموظفين إلا أن هذه الدول تواصل الاعلان تباعاً عن تجميد دعمها للاونروا ، الأمر الذي يشي، إن لم يجري مواجهته، بخطرين داهمين أولهما مزيد من الضغط على الحياة المعيشية للسكان النازحين، والذين يعتمدون بشكل كلي على دعم الأونروا والمساعدات الانسانية التي تقدمها، لدفعهم للتهجير ، وأما الخطر الثاني فهو التخلص من الأونروا كعنوان ليس فقط لرعاية شؤون اللاجئين، بل و لشطب قضية اللاجئين ولحقهم في العودة. وبالتأكيد هو ليس مجرد رد فعل على قبول محكمة العدل الدولية لطلب جنوب أفريقيا باتهام اسرائيل بارتكاب الابادة الجماعية وضرورة محاكمتها على هذه الجرائم البشعة. فشطب الأونروا طالما كان هدفاً اسرائيلياً من بداية تأسيسها، كما بات هدفاً لحلفائها الغارقين في النفاق المزمن ازاء القضية الفلسطينية وعدالتها.
محكمة العدل الدولية والعدالة الانسانية ،،
رغم أهمية قرار محكمة العدل الدولية بقبول طلب جنوب افريقيا اتهام اسرائيل بجريمة الابادة الجماعية لسكان قطاع غزة، فإن عدم النص على ضرورة وقف الحرب كما جرى مع أوكرانيا على سبيل المثال، يشير إلى أن منظومة العدالة الدولية أمام امتحان حقيقي، فهذه المنظومة لم ترتقِ بما يكفي للاستجابة إلى متطلبات العدالة ذاتها، و إلى مطالب الرأي العام للشعوب المنتفضة ضد حرب الابادة الاسرائيلية والمطالبة بوقفها، كما أن هذا الخلل الذي قد يهدد مصير القانون الدولي ومنظومة العدالة الدولية، لم يعد مقتصراً على فلسطين وحدها، بل هو قضية شعوب الانسانية برمتها، وهو ما يتطلب بناء استراتيجية فلسطينية متكاملة باعتبارها جزءاً ومركزاً لمعسكر العدالة الانسانية الكونية في مواجهة معسكر الابادة ومخلفات الاستعمار القديم والجديد، والتي تشكل العنصرية الصهيونية للاحتلال الاسرائيلي مركزه الأكثر بشاعة في العصر الحديث.
استراتيجية موحدة لوقف الحرب ومواجهة التصفية ،،
بناء مثل هذه الاستراتيجية في فلسطين لا يمكن انجازه دون وحدة مختلف مكونات الشعب الذي يتعرض لهذه الابادة وخطر التطهير العرقي، والذي لم يعد مجرد خطط في الادراج. والسؤال الموجه اليوم لمجمل أطراف الحركة الوطنية المنضوية في إطار منظمة التحرير، والتي لم تعد لشديد الأسف، في ظل واقعها الراهن والاصرار على تهميش دورها وتقويض مكانتها كإتلاف عريض وجبهة وطنية لقيادة النضال الوطني، ذات صلة بهذه التحديات، على الأقل من وجهة نظر الأغلبية الفلسطينية، سيما قواها الحية والشابة من الجنسين. والسؤال الآخر هو إلى متى ستظل القيادة المتنفذة تدفن رأسها في الرمال وتبلع لسانها، دون أي مبادرة أو خطة أو موقف لمواجهة هذه التحديات المصيرية بوحدة موقف يتصدى لهذه المخططات، بل فهي ما زالت تشيح بوجهها عن أية رؤىة ملموسة تدعو دون مماطلة إلى ضم كافة القوى وخاصة القيادتين السياسيتين لحركتي "حماس" و"الجهاد" إلى قيادة المنظمة ودون أية شروط مسبقة سوى المصلحة الوطنية العليا، باعتبار ذلك هو الخيار الوحيد أمام شعبنا لتعزيز صموده، وقيادة نضاله نحو انهاء الاحتلال وممارسة حقه في تقرير مصيره بما يشمل انتخابات مؤسساته الوطنية الجامعة على كافة المستويات. ولهذه الاسباب وغيرها فإن المنظمة بما تعانيه من تهميش ومن صراع فئوي على شرعيتها المفرغة من مضمونها، باتت تبدو من وجهة نظر نسبة كبيرة من الفلسطينيين، وكأنها معزولة عن الواقع وعن هموم وتطلعات الأغلبية الشعبية. والسؤال الحقيقي هو لماذا هذا الانتظار الذي لا يمكن أن يساهم في تسريع انهاء الحرب، لا بل ويساهم في جعل انهائها مرهونا بقرار من نتنياهو . والسؤال الآخر هل تعتقد القيادة المتنفذة أن قدرة الناس على الصمود ستظل ثابتة إلى ما لا نهاية دون توفير الحد الأدنى من متطلبات هذا الصمود، وفي مقدمة ذلك استعادة الأمل في قلوب وعقول المنكوبين، وبما يستدعيه ذلك من ضرورة الانحياز للارادة الشعبية بالوحدة، وبما يمكن الناس من القدرة على البقاء والنهوض بالطاقات الكلية لشعبنا لضمان اعادة اعمار ما دمرته الحرب، وهل يعلم هؤلاء الغارقون بالمصالح الفئوية أنه دون ذلك فالهجرة ستكون حل الخلاص الفردي الوحيد الذي سيجبرون على تجرع سمه ؟! وهل يدركون أن كل يوم يمر دون القيام بذلك يُبقي العدوان وخطر التهجير مفتوحان على مصراعيهما.
لقد آن الوقت بأن يًخضع جميع قادة الحركة الوطنية للمساءلة الشعبية ، فيما اذا كانوا سينحازون لارادة شعبهم وللمستقبل، الذي وبعد كل هذه التضحيات لن يقبل باستمرار أن يظل مكبلاً بقيود أوسلو، وما أفرزه من سياسة ونهج استرضاء العدو الذي يتربص بهم جميعاً، ولا يهدف سوى لتصفية قضية شعبنا. فلم يعد أمام شعبنا من خيار سوى الوحدة والصمود طريقاً للنصر والحرية .