في صبيحة السابع من أكتوبر 2023، وجه محمد الضيف القائد العام العسكري لكتائب القسام خطاباً توجيهياً شاملاً، وسنحاول هنا تحليله، باعتباره الخطاب التأسيسي لطوفان الأقصى، ومن ثم مقارنته بوثيقة حماس الأخيرة، لنعرف إلى أين تتجه الحركة؟
السمة الواضحة لخطاب الضيف أنه ذو طابع ديني، مرجعيته ولغته وتوجهاته وأهدافه دينية، يستند إلى نصوص مقدسة وآيات من القرآن الكريم.
وفي الخطاب إشارات كافية توحي بأن طوفان الأقصى عبارة عن حرب دينية، بين جموع المؤمنين ومعهم أحرار العالم، ضد الاحتلال.. وقد ركز بشكل مكثف على المقدس الديني: القدس، المسجد الأقصى، تدنيس باحات الأقصى، هدم الأقصى وبناء الهيكل، وعربدة المستوطنين في الأقصى بالشعائر الدينية وجلب بقرة حمراء، وسبّ النبي، وتمزيق المصحف، والاعتداء على المرابطات.. وهذه العناصر جعل منها المبرر الأساسي لطوفان الأقصى.
كما استند في مشروعية طوفان الأقصى إلى النصوص والمفاهيم الإسلامية «اقتلوهم حيث ثقفتموهم»، وكانت ثقته الكبيرة ورهانه الأهم في تحقيق النصر على نصرة الله، ووعده بنصرة المؤمنين.
ومن المهم أيضاً الالتفات إلى اسم العملية وعنوانها: «طوفان الأقصى»؛ في كلمة «الطوفان» إشارة إلى ما هو مأمول ومتوقع من الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية للانخراط فيه، والتجند للمعركة.
وفي كلمة «الأقصى» إشارة مباشرة إلى الهدف، وطبعاً من الصعب جداً أن يختلف أحد مع هدف كهذا (الأقصى)، نظراً لمكانته الدينية والقومية والوطنية في الوجدان الشعبي، بيد أنه من السهل إخفاء العديد من الأهداف الأخرى خلف هذه التسمية، بل ويصبح تبرير كل شيء ممكناً تحت اسم الأقصى وطوفانه الشعبي المأمول.
وللتوضيح، حدد الضيف أربعة عناصر جعل منها أسباب ومبررات الهجوم، أولها استباحات المسجد الأقصى، والمخاطر التي تتهدده، وهذه احتلت حيزاً كبيراً من الخطاب، ثم أضاف ثلاثة عناصر ولكن ليس بنفس المساحة من الاهتمام؛ وهي: اجتياحات الاحتلال لمدن وبلدات الضفة الغربية واستمرار الاستيطان، واستمرار الحصار الخانق والظالم على قطاع غزة، وأخيراً، استمرار معاناة الأسرى الفلسطينيين ورفض الاحتلال أي صفقة تبادل إنسانية. وبالمناسبة لخص هذه العناصر السيد حسن نصر الله في خطابه الشهير في مطلع تشرين الثاني.
ومع هيمنة البعد الديني على الخطاب، إلا أنه تضمن إشارات سياسية مهمة، وبلغة سياسية معاصرة؛ وهي تنكّر إسرائيل للقوانين الدولية، وخرقها لقوانين حقوق الإنسان، ومخاطبة حماس وتحذيرها للمجتمع الدولي من مغبة استمرار الاحتلال وتواصل تعدياته، مع شجب الصمت الدولي.
استند الخطاب إلى فكرة مفادها أن المرحلة الحالية هي مرحلة انتصار، وبالتالي تسمح باتخاذ خطوة كبيرة ومفصلية تمثلت بهجوم السابع من أكتوبر، والاستعداد لحرب كبرى، ستنتهي بالتحرر من الاحتلال.
إذ حدد الخطاب هدفاً سياسياً لطوفان الأقصى، وهو التخلص من الاحتلال، والاحتلال يعني بالضرورة احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، دون الحديث عن القضاء على إسرائيل وتصفيتها كلياً، وحين وردت أسماء المدن والمناطق الفلسطينية داخل الخط الأخضر كان يريد منها المشاركة في الطوفان من خلال أعمال الحرق وإغلاق الطرق، أي مناصرة الطوفان من خلال أعمال نضالية معينة. وحين خاطب الضفة الغربية طالب بتركيز الهجمات على المستوطنات فقط.
ودليل آخر، أنَّ الخطاب تحدث عن الأسرى ومعاناتهم، فمن غير المعقول أن يطالب بتصفية إسرائيل، وفي الوقت ذاته يطالب بإجراء تبادل للأسرى معها.
والهدف السياسي الآخر هو «استعادة شعبنا ثورته، وتصحيح مسيرتها، والعودة لمشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة».
صحيح أنها إشارات عامة، لكنها تعني ضمناً القبول بمشروع الدولة الفلسطينية على حدود الـ67. وهذا الهدف السياسي تم التأكيد عليه بوضوح أكبر في خطابات إسماعيل هنية وأسامة حمدان وأبو مرزوق أكثر من مرة، وبكلمات واضحة.
الجمهور المستهدَف في الخطاب: الشعب الفلسطيني أولاً، والأمة العربية والإسلامية ثانياً، وبدرجة أقل شعوب العالم، والذي أشار إليهم بأحرار العالم.
وللتوضيح أكثر، طالب كلاً من لبنان وإيران والعراق واليمن وسورية بالانخراط عسكرياً في المعركة، «هذا يومكم لتلتحم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين»، وهذه هي تحديداً دول محور المقاومة. أي أنه راهن على إسناد محور المقاومة وتوقع منه مشاركة عسكرية.
ثم طالب جماهير الأردن ولبنان ومصر (وسائر البلدان العربية والإسلامية) بالزحف نحو فلسطين «ابدؤوا بالزحف الآن نحو فلسطين، وليس غداً، ولا تجعلوا حدوداً ولا أنظمة ولا قيوداً تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى».. أي أنه توقع مشاركة جماهيرية واسعة سينشأ عنها إحراج تلك الدول من خلال اقتحام الحدود، أي الرهان على الشارع العربي والإسلامي.
أما شعوب العالم فخاطبها قائلاً: «يا أحرار العالم من لم يستطع المشاركة في طوفان الأقصى مشاركة فعلية مباشرة فليشارك بالتضامن والتظاهر والمساندة.. أُخرجوا للساحات والميادين وارفعوا راية الحرية لفلسطين وللأقصى». الرهان على الرأي العام العالمي.
وفيما بعد، أي بعد انطلاق الطوفان، حاول العديد من الجهات الحزبية (خاصة في الخارج) توظيف طوفان الأقصى سياسياً وأيديولوجياً، واستغلاله لخدمة أهدافها ومنطلقاتها، وبناء عليه صارت تروج لأفكار وأهداف لم ترد في خطاب الضيف، وصارت تحمّل الخطاب أكثر مما يحتمل، وتضع عليه أعباء إضافية، مثل القضاء على إسرائيل، أو المناداة بعودة الخلافة، وإسقاط الأنظمة الحاكمة، وأن طوفان الأقصى يستنهض الأمة الإسلامية للعودة إلى مرتكزات خطاب الإسلام السياسي.. علما أن خطاب الضيف وكذلك تصريحات قادة حماس حددت سقفاً سياسياً لطوفان الأقصى، وهو التحرر من الاحتلال وبناء الدولة الفلسطينية.
تلك أبرز الملاحظات على خطاب الضيف، وهذا يفتح النقاش حول مدى صوابية رهاناته، بناء على تطورات الأحداث، وما تحقق فعلاً على الأرض.
ولكن، بعد أكثر من مائة يوم على بدء العدوان، أصدرت «حماس» وثيقة عنوانها: «هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟»، وصار ضرورياً مقارنتها بخطاب الضيف. وهي ما سنناقشه تالياً، وهل جاءت مكملة لخطاب الضيف، أم تجاوزته؟ وتخلت عنه؟.