قبل عدة أسابيع فقط كان الحديث عن احتمالات اندلاع حرب شاملة في سورية وعليها مسألة خارج منطق الرؤى والتحليل السياسي.
اليوم أصبح الحديث عن اندلاع حرب كهذه واحدة من مسائل التحليل المنطقي، بل وأصبح الحديث عن حل الأزمة السورية مرتبطاً بإمكانية الحرب، وهناك من بات يرجّحها، وهناك من بات يراها حتمية في ظل التطورات الأخيرة على هذه الساحة.
يبدو جلياً الآن أن التقدم الكبير الذي أحرزته القوات النظامية السورية على جبهة حلب وعلى جبهة درعا بدعم وإسناد غير مسبوق من القوات الجوية الروسية هو واحد من أهم هذه التطورات كما أن الغرب ومعهم معظم دول الإقليم المناوئة للنظام السوري باتوا على قناعة «تامة» بأن استمرار تقدم القوات النظامية السورية على هذه الوتيرة سيعني بالضرورة التأثير المباشر والكبير على طبيعة الاتفاق «المنتظر» وعلى طبيعة المرحلة الانتقالية المقترحة بل ويمكن القول هنا إن استمرار هذا التقدم ربما سيقود إلى حسم الصراع على غير الوجهة التي رسمها الغرب وقبلت بها بعض الدول الإقليمية على مضض.
تركيا على وجه الخصوص وبعد أن تم «تطهير» الجزء الأكبر ـ على ما يبدو ـ من ريف حلب شعرت بأنها الخاسر الأكبر من تقدم وزحف القوات السورية، وبدلاً من أن تكون الدولة المحورية على مستوى الإقليم التي تتصدر مشهد «الحل والربط» في مجمل المسألة السورية بات عليها أن تتحول فقط إلى دولة مستقبلة لموجات متواصلة من اللاجئين، بل بات عليها أن تتفرج على التقدم الذي تحرزه قضية أكراد سورية سياسياً إذا عدنا للجلبة السياسية التي رافقت حضورهم لمؤتمر جنيف، كما بات عليها أن تقف متفرجة أيضاً على التقدم الذي يحرزه الأكراد في سورية ميدانياً.
لم يكن كل ذلك ليتحقق لولا أن موسكو ردّت على إسقاط الطائرة الروسية بأقسى أشكال العقاب، وهو إجبار تركيا على القبول بدور هامشي وثانوي في الصراع على الساحة السورية أو الانجرار إلى مغامرات عسكرية على هذه الساحة محفوفة بالمخاطر الكبيرة على المستوى العسكري، ولا تملك هذه المغامرات غطاءً سياسياً كافياً من الغرب ولا يكفيها الغطاء الإقليمي لضمان افضل النتائج.
الشيء الذي تنساه تركيا والعربية السعودية، أيضاً، هو أن الولايات المتحدة قد عقدت صفقتها التاريخية مع إيران، وهي ـ أي الولايات المتحدة ـ لا تمتلك حالياً ولا في مدى سنتين أو ثلاث سنوات قادمة على الأقل أية نوايا «للتورط» المباشرة في أية حرب قادمة، وهي لم تعد ـ أي الولايات المتحدة ـ مستعدة لخوض حروب الوكالات بالطريقة التقليدية التي عهدناها.
لا تريد الولايات المتحدة من منطقة الإقليم أكثر من ضمان تدفق النفط، وهي على قناعة تامة بهذا الضمان، وجلّ اهتمام الولايات المتحدة يتجه نحو الباسيفيكي ونحو آسيا حيث المصالح التجارية الضخمة، وحيث يقرر الاقتصاد الصيني والياباني والكوري مكانة الولايات المتحدة الاقتصادية دولياً.
والأمر الذي تنساه تركيا والعربية السعودية وبعض بلدان الإقليم العربي أن شروط الولايات المتحدة لأية حرب إقليمية شاملة أو كبيرة معروفة ومشخّصة قوامها عدم المسّ بالأمن الإسرائيلي، وعدم دخول القوات الأميركية وحتى قوات الناتو في هذه الحرب بصورة مباشرة وسافرة.
أي أن الأمر الذي يتم نسيانه هنا هو أن «النصر» إن تحقق فهو نصر أميركي وأما الهزيمة فعلى من يشارك فيها. بهذه المعاني ليس هناك من غطاء كامل لهذه الحرب إن حصلت وان اندلعت، وسنعود إلى المقولة المعروفة «كل هذه الحروب تعود وتصبّ في مصلحة إسرائيل».!!!
علينا أن نعترف قبل كل ذلك أن الغرب عموماً والولايات المتحدة بصورة خاصة لا يرون في التحالف السنّي المعتدل خيراً خالصاً إلاّ بقدر ما يكون هذا التحالف جزءاً من الاستراتيجية الغربية ودون أن يمتلك هذا التحالف القدرة على تحديد مصالحه التي يمكن أن تكون مختلفة مع مصالح الغرب، كما أن الغرب والولايات المتحدة لا يرون في التحالف الشيعي شرّاً خالصاً بعد أن وافقت إيران على التحالف مع الغرب ولكن ليس على حساب المصالح الخاصة لهذا التحالف.
أي أن الغرب الذي يفهم جيداً لغة القوة ولغة المصالح يفهم ألا مصالح دون قوة تحميها ولا شأن لأية قوة، إن لم تكن قادرة على الدفاع عن مصالح بعينها.
لقد ولّت مرحلة النظر إلى إيران باعتبارها دولة الشرّ، والغرب عرف كي يحوّل الشرّ الإيراني إلى لغة المصالح، أي إلى لغة القوة والمصالح في علاقتهما الجدلية المركّبة.
والعرب ومعهم تركيا ما زالوا خارج نطاق الوصول إلى حل هذه المعادلة المعقّدة. على كل حال فحتى لو اندلعت الحرب الإقليمية الشاملة، وحتى لو سبقتها حرب استنزاف لمرحلة ما فإن كسب هذه الحرب هو المستحيل بذاته، وكل ما يمكن أن يحدث على هذا الصعيد تحسين شروط الحل في سورية وعليها.
أما الأمر الأكثر جوهرية هنا ـ كما أرى ـ أن الوقت قد أصبح متأخراً للغاية لتحسينات جوهرية وأغلب الظن أن معادلة الحل السياسي القادمة في سورية هي: إعادة ترميم الدولة السورية بنظام سياسي فيه من القديم ما يكفي للبقاء على قيد الحياة، وفيه من الجديد ما يمكنه من الاستمرار وفي بيئة متحوّلة باستمرار نحو دولة دستورية منفتحة على التقدم. إذا صدقت هذه الرؤية، فإن بالإمكان تحقيق ذلك دون الحاجة إلى أية حروب، إذ لا قيمة للحاجة التي لا حاجة لها.