أصبحت محاولات أمريكا وحلفاءها واضحة في البحث عن حلول تتجنب الإقرار بهزيمة اسرائيل، من خلال فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة من العدوان على إقليم غزة، وفي نفس الوقت تمهد لحقبة ما بعد وقف إطلاق النار التي من شأنها ضمان استمرار الهدوء للكيان الاسرائيلي، الأمر الذي لن يتم حسب الرؤية الأمريكية إلاّ بتلبية مطالب الفلسطينيين ولو جزئياً، من خلال منظور حل الدولتين، وإن كان بالشكل الذي تراه أمريكا مشروطاً بموافقة اسرائيل سواء أكانت تلك الموافَقَة طوعية أو مفروضة عليها أمريكياً.
تشير التطورات الأخيرة إلى تبلور خطوات إسرائيلية–أمريكية–عربية، تهدف إلى تحديد مستقبل إقليم غزة وفلسطين والفلسطينيين في حقبة ما بعد وقف إطلاق النار والعدوان الاسرائيلي على إقليم غزة، وهذه الخطوات تهدف إلى تمهيد الطريق أمام إعادة تشكيل الوضع الفلسطيني من جهة، والعلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية من جهة أخرى.
وفيما يلي أهم معالم هذه الخطوات :-
أولا : يبدو أن خيار توحيد الصف الفلسطيني قد استُبْدِلَ بخيار تعزيز الفرقة والانقسام بين الفلسطينيين، وتكريس الانفصال الفعلي والعملي بين إقليم غزة من جهة والضفة الفلسطينية من جهة أخرى. إن المؤشرات الاخيرة على إزدياد حدَّة الهجوم العلني للسلطة الفلسطينية على حركة حماس، وكَيْل الاتهامات لها، قد أصبح مؤشراً واضحا على هذا التوجه. الهدف الكامن وراء كل ذلك هو تطبيق سياسة الاستبدال، من خلال استبدال حماس بالسلطة الفلسطينية التكنوقراطية في إقليم غزة، واستبدال إدارة السلطة الفلسطينية بسلطة المستوطنين الاسرائيليين المتزايدة في الضفة الفلسطينية، تمهيداً لحصر مساحة مشروع الدولة الفلسطينية المقترحة في إقليم غزة فقط، وربما قد يضاف لها اجزاء متناثرة من الضفة الفلسطينية، لا تصلح بمفردها لأن تشكل أساساً لأي كيان مهما كان هزيلاً .
ثانياً : المطلب الأمريكي بإصلاح السلطة الفلسطينية يهدف في حقيقته إلى أن تصبح السلطة جهازاً تكنوقراطياً، مسؤوليته الأولى والأهم هي إدارة شؤون الحياة اليومية في الضفة الفلسطينية وإقليم غزة، وتحسين مستوى الحياة ونوعيتها، من خلال المساعدات الانسانية كبديل للمطالب السياسية، مع الابتعاد عن السياسة بشكل كامل تقريباً، وحصر الدور السياسي للسلطة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الاسرائيلي. حكومة د.محمد مصطفى الجديدة هي على هذا النَسَقْ، حكومة تكنوقراط حصراً، وأما من يرث محمود عباس فإنه سوف يكون عملياً ضابط أمن فلسطيني، مهمته الحفاظ على التنسيق الأمني وكبح جماح أي شخص أو فريق فلسطيني معارض للاحتلال. هذه هي السلطة الفلسطينية الجديدة والمعدَّلة، كما تريدها أمريكا واسرائيل، والتي سوف توكل إليها أمور الفلسطينيين المستقبلية .
ثالثاً: تقطيع أوصال إقليم غزة على نَسَقْ ما جرى ويجري في الضفة الفلسطينية، مع فارق عدم وجود مستوطنات اسرائيلية داخل إقليم غزة، بل كنتونات أمنية داخل الإقليم نفسه، بحيث تَحدّْ من إمكانية أن يتصرف الإقليم في حال تحوله إلى دويلة كوحدة أمنية واحدة، بل يصبح مقسماً إلى كنتونات عادية مفصولة بكانتونات أمنية، قد يتم إخضاعها أمنياً لإشراف قوات عربية أو دولية سوف تكون موجودة في تلك الكانتونات، وتساهم بالتالي في عملية تقطيع أوصال إقليم غزة بشكل دائم.
رابعاً: إن المناداة بحل الدولتين من خلال دويلة فلسطينية مقزمة، هو أحد نتائج العدوان الاسرائيلي الدموي على إقليم غزة، الذي خَلَقَ قناعة لدى أمريكا والغرب بضرورة إيجاد دولة للفلسطينيين كوسيلة لتهدئة المنطقة، من خلال تلبية بعض المطالب الفلسطينية ولو شكلياً، والهدف هو ضمان استمرار الهدوء للكيان الاسرائيلي. وهذا يعني ويَتَطَلَّب إخضاع الدولة الفلسطينية الموعودة لنظام حكم صديق لإسرائيل، ولا مانع أن يكون شريكاً أمنياً لها، والمرشح لذلك هو السلطة الفلسطينية المعدّلة تكنوقراطياً .
خامساً: إن حصر الدولة الفلسطينية المدعومة أمريكيا ودولياً في إقليم غزة، يتطلب توفر منافذ بحرية وجوية لها على العالم الخارجي، بدلاً عن المنافذ الأرضية مع دول الجوار، والهدف هو فك أي تواصل أو ارتباط بَرّي بين إقليم غزة والعمق الفلسطيني من جهة، وكذلك الدولة المصرية العربية من جهة أخرى. أما الاشراف الأمني على تلك المنافذ سواء الجوية أو البحرية فمن المتوقع أن يُعْطى لطرف أو أطراف ثالثة، توافق عليها اسرائيل وأمريكا، وذلك لإخضاع تواصل الدولة الفلسطينية مع العالم الخارجي للمراقبة، ومنعها من التواصل بشكل حر ومفتوح، أي أن تكون دولة دون سيادة، مما سوف يجعل الدويلة الفلسطينية الموعودة مستباحة تماماً لإسرائيل وحلفائها، وبشكل يضمن اخضاعها الأمني الكامل وبشكل مسبق لإسرائيل، بهدف منع بناء أو تطور أو تسليح أي حركة مقاومة وطنية فلسطينية للإحتلال الاسرائيلي في المستقبل .
سادساً : تقوم أمريكا حالياً بالعمل على رد الاعتبار لاسرائيل، التي انهارت سمعتها دولياً نتيجة للمجازر التي ارتكبتها بحق الاطفال والنساء والمجتمع المدني في إقليم غزة عموماً، وتدمير كافة منشآتِهِ السكنية و الصحية والتعليمية والدينية والتراثية، مما جعلها تدفع ثمناً فادحاً على المستوى الدولي لتلك المجازر، حيث فقدت سمعتها وتحولت في نظر معظم شعوب العالم إلى دولة مارقة تنتهك القانون الدولي والانساني علناً وبشكل مستمر. إن هذا المسعى من قبل أمريكا وحلفائها يتطلب استمرار الضغوط الأمريكية والغربية وربما العربية على حركة حماس لتقديم المزيد من التنازلات في ظل غياب ضغوط مماثلة على اسرائيل، خصوصاً ما يتعلق بالتزويد العسكري والدعم السياسي، والاكتفاء بتقديم المساعدات الانسانية للفلسطينيين. يد تعطي السلاح والذخيرة لقتل وتجويع وتعطيش الفلسطينيين، واليد الأخرى تعطي الفلسطينيين بعض الطعام والماء.
وبالطريقة التي تجري بها الأمور، فإن ما هو قادم لا يبشر بأي خير على المدى المستقبلي، وما قد يَقْبَل به الفلسطينيون مرحلياً، ولو على مضض، يعتبر بالنسبة للاسرائيليين خارج نطاق المعقول والمقبول، فالحل الاسرائيلي يتلخص بعدم وجود شعب فلسطيني، وبأن فلسطين هي أرض يهودية، ودولة اسرائيل هي دولة لليهود حصراً، وأي حل خارج نطاق هذا التفكير غير مقبول اسرائيلياً في أصوله، بل يعتبر كمرحلة نحو تحقيق الهدف الاسرائيلي مما يعني أنه لا يوجد أي حل حقيقي.
إن حل الدولتين هو ما تريده أمريكا والغرب و العرب والسلطة الفلسطينية وليس ما يريده الشعب الفلسطيني أو يمكن أن يقبل به كحل دائم ونهائي، كونه يجافي المصلحة الوطنية الفلسطينية المُطَاِلبَة بزوال الاحتلال ونظام التمييز العنصري أو الاستمرار في مقاومته إلى أن يتم ذلك.