حدث الأسبوع الماضي ولأول مرة في الحرب استئناف للصراع الداخلي بين «حماس» والسلطة بعد هدنة نصف عام فرضتها آلة الموت الإسرائيلية، وحدث أن اعتقل الأمن الخاص بحركة حماس بعضاً من العاملين في السلطة من جهاز المخابرات العامة كانوا «يتسللون لمرافقة المساعدات» حسب وصف بيان الأمن والجبهة الداخلية وغرفة العمليات المشتركة.
وبعد التحقيق معهم، كما قال بيان آخر، اعترفوا على أنهم جزء من المؤامرة، مؤامرة ماذا؟ مؤامرة تقودها السلطة عن طريق جهاز مخابراتها للسيطرة على غزة، وكأنه مسموح للكل أن يبحث ويساعد ويقدم خدمات، إلا السلطة ليس سوى لأنها النقيض لحكم الحركة أو من تنازعها الحكم. ومن خلال البيانات يتضح أن حركة حماس مازالت تصر على حكم قطاع غزة دون أن تسأل نفسها: هل هذا ممكن؟
يحتاج قطاع غزة إلى عشرات المليارات لإعادة إعماره «كما يقول بيان البنك الدولي الذي يتحدث عن 18.5 مليار حتى نهاية كانون الثاني» أي قبل ثلاثة أشهر، أي أن الرقم تضاعف ولم يتوقف العداد بعد. كيف ستضمنهم الحركة؟ هل تظن أن العالم سيعيد إعمار غزة ما دامت تحكم غزة؟ ناهيك عن عشرات آلاف الشهداء الذين يحتاجون كفالات شهرية وأضعافهم جرحى يحتاجون إلى رعاية دائمة، فهل يمكن لحركة حماس أن تتكفل بهذا؟
وإذا كان هناك من سيتكفل بكل هذا الخراب في ظل حكم الحركة ما هو الثمن المطلوب؟ وهل تمكنت الحركة أن تفرض في الميدان ما يرغم العالم على أن يتوسط لحلٍ تحقق فيه ما يعكس توازن الميدان الذي لم يسلحها بما يمكنها من تحقيق أي شيء؟
باتت المطالب التي تدور حولها المفاوضات أقل كثيراً من فداحة الحرب، والتي تعني في النهاية ضمان حكم الحركة دون أن تدرك أن الخراب أكبر كثيراً من إمكانية استمرار حكمها. ورغم بساطة المطالب فالإسرائيلي يتلاعب بالمفاوضات كي يستكمل عملية الإبادة المتواصلة لجعل غزة غير صالحة للحياة بهدف تهجير سكانها، وعدم إعلان حركة حماس عن عدم الكف عن حكم غزة يعني استمرار الحرب. فالحركة لا تريد ذلك والميدان لا يسعفها لفرضه ووقف الحرب. وهنا وقع الفلسطينيون في مأزق مدمر.
التهديد الإسرائيلي بدخول رفح به قدر من الاستسهال كأن إسرائيل لا تجد صعوبة، وعلينا أن نلاحظ أن الذي يقف أمام إسرائيل هي الولايات المتحدة والعالم الذي يحذر من دخولها، وليس القوة العسكرية لـ «حماس» التي لم تستطع لجم الإسرائيلي عن الدخول لباقي مدن غزة، كما حصل مع حزب الله عام 2006 عندما عجزت قواته عن الدخول لمئات الأمتار، فاضطر للبحث عن مخرج كانت الولايات المتحدة في مجلس الأمن تنقذه من تلك الحرب التي كانت تكلفه كل متر فيها من أرواح جنوده، ومع ذلك لم يتمكن من احتلال قرى حدودية.
الإسرائيلي يبحث خيارات اليوم التالي للحرب، واضعاً سيناريوهات من الأسوأ للأقل سوءاً، كما عرضها يوآف غالانت رافضاً حكم «حماس» أي وصفة الحرب بلا توقف أو حكم عسكري إسرائيلي مكلف، أو الفوضى أو التعاون مع جهات محلية، وكلها خيارات أيضاً مكلفة للفلسطينيين، قد يكون أقلها تكلفة لهم حكم حركة حماس، لكن بلا إعمار وحصار، أي دفع الناس للنزوح بشكل إرادي مع الفقر والركام، فغزة بلا مدارس ولا جامعات.
لا أحد يشكك بإجرام الإسرائيلي ووحشيته، ومن يعتقد غير ذلك فليقرأ التاريخ، ومن راهن على أنه أقل من ذلك فهو بحاجة لدروس في السياسة، ومن يدير سياسة بغير هذا الإدراك فإنه يغامر بشعب ويستدعي هزيمته، وهذا آخر ما يريده الشعب الفلسطيني في رحلة الحرية، لا متسع لديه للهزائم بل للانتصارات حتى لو كانت بسيطة ومتراكمة.
فإذا كانت خيارات إسرائيل بهذا الشكل يعني استمرار إنهاك غزة وذبحها في ظل انتهاء مرحلة المراهنة على العالم وضميره وقوانينه وأعرافه، وكل هذا الكلام القديم وفي ظل استمرار المجاعة، وإذا كانت للسلطة قدرة على المساهمة في تخفيفها فأين المشكلة؟ أم مسموح للجميع أن يمد يده إلا السلطة، وإذا لم تكن السلطة القادمة لحكم غزة رغم أزمتها وفسادها وكل ما يمكن أن يقال عنها وهو كثير فمَن هو البديل؟ هل فكر الفلسطينيون بذلك؟
الفلسطينيون في غزة الآن وفي الأمد القريب والبعيد ليسوا بحاجة سوى لمن يقدم مساعدات ويساهم في تثبيتهم وتخفيف كارثتهم، وتلك أولوية راهنة ومهمة إستراتيحية في آن، إذا كان بإمكان السلطة أن تفعلها رغم علاتها فذلك إنجاز وسط الدمار، الجميع يقدم مساعدات ويعمل مشكوراً من مؤسسات دولية ودول كمصر والأردن والإمارات والسعودية وتركيا وأفراد وتبرعات، وحتى الولايات المتحدة التي يقتل الشعب بسلاحها، وهناك من يقيم تكيات فلماذا الحساسية من السلطة وحدها؟ الجواب معروف، لأنها نقيض الحكم، دون أن تدرك الحركة أن الحكم أصبح من غير الممكن لأسباب فلسطينية تتعلق بمن سيبقون في غزة هذا إن بقوا..!