منذ انطلاقتها، وحتى «طوفان الأقصى»، اعتمدت «حماس» إستراتيجيات متعددة في ممارستها وفهمها للمقاومة، يمكن تحقيقها زمنياً على النحو الآتي:
في بداياتها (1988) تبنت «حماس» نهج المقاومة الشعبية السلمية، التي كانت تتبناها أيضاً «فتح» وسائر فصائل المقاومة، وكانت تلك هي السمة الرئيسة والطاغية على نهج وأساليب الانتفاضة الشعبية، والتي دامت حتى مطلع العام 1993. وكانت مقتصرة على التظاهرات، والاعتصامات، والإضرابات، وإغلاق الطرق، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، وإلقاء الحجارة، وعبوات المولوتوف، مع عمليات عسكرية صغيرة ومحدودة.
وبدءاً من العام 1993، شكلت «حماس» جناحاً عسكرياً مسلحاً (كتائب القسام)، وبدأت بممارسة مقاومتها عبر عمليات تفجيرية داخل الخط الأخضر.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في خريف العام 2000، استمر أسلوب «حماس» في المقاومة، وبنفس الشكل والمضامين التي كانت تتبناها «فتح» وسائر فصائل المقاومة، أي بالاشتباكات العسكرية المباشرة، وكانت هذه أيضاً سمة الانتفاضة الثانية (انتفاضة مسلحة)، بيد أن «حماس» تميزت بأسلوب العمليات التفجيرية (الاستشهادية) داخل الخط الأخضر. وقد تخلت «حماس» فعلياً وبصورة نهائية عن أسلوب العمليات التفجيرية بدءاً من العام 2004، ولم تمارسه بعد ذلك التاريخ.
وبدءاً من العام 2005، أخذت «حماس» تعاظم من قوتها العسكرية بالاستعراضات المسلحة، وبعد سيطرتها على القطاع في 2007، حاولت المزاوجة بين دورها كسلطة حاكمة، ودورها كفصيل مقاوم. بيد أنها لم تتمكن من حل هذا الاستعصاء المعقد، فلم تتمكن من استمرارها بالمقاومة، ولم تتمكن من تقديم نموذج ناجح في الحكم، سيما أن إسرائيل ظلت تتعمد توجيه ضربات عسكرية قوية ضد «حماس»، بين الفينة والأخرى، تمثلت في أربع حروب (2009، 2012، 2014، 2021)، كانت تريد من خلالها تقليم أظافر المقاومة، وإضعاف قدراتها العسكرية، وتعقيد الأمور عليها لإفشالها، بسبب الأضرار الجسيمة والخسائر الفادحة التي كانت تلحق بالقطاع في كل جولة عدوان. ولم تصل الأمور ولا مرة إلى قرار إنهاء «حماس» وتصفيتها، بل كانت إسرائيل تترك لها مجالاً للاستمرار بهدف إدامة الانقسام، بيد أن «حماس» كانت تجاهد للنهوض من جديد، فتعود في كل مرة أقوى من سابقتها.
نقطة التحول الأخيرة (طوفان الأقصى) تمثلت بتنظيم هجوم واسع النطاق متعدد الجبهات، وبأعداد كبيرة جداً من المقاتلين، استهدف اقتحام مراكز عسكرية واستخباراتية للعدو، واقتحام مستوطنات وأخذ أسرى، باستخدام عنصر المفاجأة.. وهو أسلوب غير مسبوق، وغير معهود لا في ممارسات «حماس» السابقة، ولا ممارسات «فتح» وسائر فصائل المقاومة.
ويمكن القول: إنه غير معهود حتى في الثورات التي تبنت حرب العصابات، إذا أخذنا بالاعتبار الفروقات الجوهرية بين تجارب تلك الثورات وبين تجربة «حماس»، من حيث مساحة تلك الدول، وتعداد سكانها، وطبيعتها الطبوغرافية، وظروفها السياسية.. فمثلاً لجأ الثوار الفيتناميون في معركة «ديان بيان فو» ضد الاستعمار الفرنسي (1954)، وفي هجومها على سايجون ضد الاحتلال الأميركي (1975)، إلى استخدام هجوم شامل متعدد الجبهات وبأعداد ضخمة، وكذلك فعل الثوار الكوبيون في هجومهم على العاصمة هافانا (1959)، لكن تلك الثورات المسلحة استمرت سنوات عديدة وبشكل متواصل، وحين تهيأت الظروف ونضجت مرحلة الانتصار قررت الهجوم النهائي الكاسح.
وعلى إثر عملية السابع من أكتوبر، جاء الرد الإسرائيلي قاسياً ومدمراً، وقد خاضت «حماس» (والجهاد الإسلامي) مقاومة باسلة، وهذه المقاومة والتي تحولت إلى الصيغة الدفاعية، من المفترض، وكما صرح قادة المقاومة، أنها جزء من الإعداد والتخطيط للعملية، وتتويج للتحول الكبير والعميق في نهج المقاومة لدى «حماس»، وقد تميز هذا النهج بالجمع بين ثلاثة تكتيكات، الأول: الصواريخ الموجهة إلى داخل الخط الأخضر. الثاني: الاشتباكات المباشرة باستخدام ما توفر من أسلحة رشاشة وقذائف هاون ومضادات دروع. الثالث: استخدام شبكة الأنفاق في التنقل والهجوم وتخزين الأسلحة والعتاد واحتماء المقاتلين وقادة المقاومة فيها.
وفيما يتعلق بأداء المقاومة في تصديها للاجتياح البري للقطاع، تحدث قادة «حماس» عن وجود مفاجآت في حالة بدء الحرب البرية، وفي الواقع لم تأتِ تلك المفاجآت كما توقعها الخبراء والمحللون، فلم نشاهد أسلحة متطورة، أو تجهيزات غير معروفة، أو كمائن غير معهودة.. ما رأيناه أسلحة تقليدية، وأساليب قتال تم تجريبها سابقاً في كافة حروب العصابات وحروب المدن.. المفاجأة التي رأيناها بوضوح تمثلت في شجاعة المقاتلين، واستبسالهم والتحامهم مع العدو وجهاً لوجه.. وهي شجاعة وبطولة مذهلة وسيخلدها التاريخ.. ولكن ومن باب الإنصاف والموضوعية يتوجب التذكير بأن الفدائي الفلسطيني طوال عمره شجاع ومقدام.. ولم يُعرف عنه الجبن ولا التراجع.. في المعارك والمواجهات السابقة وحتى في خوض العمليات الفدائية كان التخطيط يتضمن دوماً خطة للانسحاب، وتدابير معينة لتجنب الموت قدر الممكن.. في هذه الحرب لا توجد إمكانية للتراجع، وليس أمام المقاومة إلا المضي قدماً.. ظهرهم للحائط، وأمامهم العدو.
وهؤلاء المقاومون في عمر الشباب، ولدوا وعاشوا وكبروا في أجواء الحصار، ولم يروا من الدنيا سوى الحروب المتتالية والقصف والتدمير وفقد أحبتهم، فاستوت عندهم الحياة مع الموت، كما أنهم تربوا على فكرة الجهاد والاستشهاد.. لذلك رأيناهم يفجرون الدبابة من المسافة صفر.. ولذلك أيضاً شجاعة الفلسطيني ستتغلب على تدريب الجندي الإسرائيلي.. وإيمانه بإحدى الحسنيَين أقوى من خطط جيش الاحتلال.. وأبناء الأرض ليسوا كالغزاة المحتلين.
وبطبيعة الحال، فإن بناء هذه القوة الصاروخية، وإعداد شبكة الأنفاق وتدريب وتعبئة المقاتلين لم يبدأ في أيار 2021، من المؤكد أن هذا التجهيز والإعداد بدأ منذ سنوات طويلة، منذ سيطرة «حماس» على غزة، ومع ذلك، عملية تصنيع الصواريخ وحفر الأنفاق لا تعني بالضرورة تحولاً في نهج «حماس» المقاوم، وحتى التدريب والتعبئة والتحشيد بحد ذاتها لا تعتبر جزءاً من التغيير، ولا تعني بالضرورة حتمية التصادم مع إسرائيل؛ فلربما كانت «حماس» تريد منها التخويف والردع والتلويح والضغط بالقوة، أو لاستخدامها داخلياً، أو لفرض وجودها على الساحة الفلسطينية، ضمن الحسابات والتعقيدات الفلسطينية. فمثلاً، لدى كل بلد في العالم جيش مدرب ومجهز ولديه أسلحة وعتاد وتعبئة وطنية وخطط للهجوم وخطط للدفاع.. ولكن الدول لا تلجأ إلى خوض الحرب فقط بسبب امتلاكها الجيش والقوة والسلاح، بل تلجأ للحرب في حالات معينة، ويظل هذا الجيش كقوة رادعة.
المقصود، أن مسار التحول كان يعتمل وينضج في التنظيم العسكري تحديداً، وكان ينتظر قراراً قيادياً.. وهذا القرار أتى من «كتائب القسام»، وليس من المكتب السياسي، ولا من غيره من مؤسسات وهياكل الحركة.