يخضع اتفاق ميونخ الذي جرى بين الدول المؤثرة في النزاع السوري قبل حوالي الأسبوع إلى اختبار حقيقي على الأرض، في إطار السعي الحثيث لتثبيت مسألتين جوهريتين من شأن تنفيذهما أن يدفع قدماً بمسار الملف السياسي المتعثر.
أما المسألة الأولى، فتتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية إلى السوريين المنكوبين من ويلات النزاع الدائر في مناطق متفرقة داخل الأراضي السورية، حيث سافر المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا والتقى بوزير الخارجية السوري وليد المعلم، لبحث إمكانية إيصال تلك المساعدات ووقف العمليات العسكرية.
دي مستورا استفز القيادة السورية حين قال إن على الأخيرة ضرورة إيصال المساعدات إلى كل سوري متضرر، وأن التزامها بإيصال المساعدات سيكون موضوع اختبار، ذلك أن القيادة السورية التي انتقدت موقف المبعوث الدولي الخاص حين أرجأ جولة جنيف 3، اعتبرت أن صدقيته هي التي تحتاج إلى اختبار.
في موضوع المساعدات الإنسانية حصل اختراق إيجابي ملموس خلال هذه الأيام، إذ وصلت بالفعل مساعدات إنسانية عاجلة لبعض المناطق السورية، غير أن إيصالها إلى المستهدفين في قائمة الأمم المتحدة، خاضع بطبيعة الحال لمستجدات النزاع السوري على الأرض.
بمعنى أنه سيكون من الصعب وصول كافة المساعدات في الوقت الذي يتواصل فيه النزاع السوري ولم يترجم اتفاق ميونخ حول وقف إطلاق النار، وهذه هي المسألة الثانية التي تلاقي ظروفاً صعبة في ظل المناكفات والخلافات المستفحلة الحاضرة بين القوى المؤثرة في النزاع السوري.
البعد الدولي في الأزمة السورية حضر هذه المرة بقوة، إثر القصف المدفعي التركي لمعاقل المقاتلين الأكراد في مناطق تقع شمال سورية، الأمر الذي استجلب ردود فعل قوية من قبل النظام السوري وروسيا التي تختلف مع تركيا على خلفية إسقاط طائرة روسية من قبل الأولى داخل الأراضي السورية.
الأتراك الذين اتهموا موسكو بقصف مستشفيات ومدارس في سورية، أكدوا على أهمية إقامة منطقة أمنية بعمق 10 كيلومترات داخل سورية تشمل منطقة أعزاز، وعلى أن تكون منطقة هادئة ومُصفرة الاشتباكات والمشاكل، وألمانيا ميركل تتفق مع أنقرة على ضرورة وجود هذه المنطقة، في ضوء الموقف الألماني من قضية اللاجئين السوريين وتخوفاتها من دخول آلاف منهم إلى أراضيها في المستقبل المنظور.
الروس من جانبهم رفضوا الدعوات التركية معللين ذلك بأن من يتحدث عن وجود منطقة آمنة هي الحكومة السورية والأمم المتحدة، ولا يبدو هناك في الأفق أي سعي جدي لإقامة هذه المنطقة، خصوصاً وأن روسيا ترفض تماماً وجود هذا الشريط الأمني الذي يهدد مصالحها في سورية.
أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة ألمحت في أكثر من مناسبة إلى عدم اتفاقها حول وجود منطقة آمنة، لسبب له علاقة بدبلوماسية واشنطن في إدارة النزاع بسورية وإبقائه دون التصعيد الذي يفجر الأوضاع عن بكرة أبيها.
وحديثاً جداً صرح الكولونيل ستيف وارن المتحدث باسم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم "داعش"، أن الوقت غير مناسب لفرض حظر طيران جوي في شمال سورية، إلى جانب تصريحات أخرى أفادت بأن واشنطن ليس لديها خطط لشن عملية برية ضد تنظيم "داعش" الإرهابي.
هذا الخلاف المستفحل ينعكس سلباً على طبيعة النزاع السوري، ويؤثر بشكل أو بآخر على موضوع وقف إطلاق النار بين فرق النزاع على الأرض، خصوصاً وأن روسيا ستواصل قصفها الجوي ضد "داعش"، إلى جانب قصف التحالف الدولي الذي يستهدف ذات التنظيم.
إذن يمكن القول إن مسألة وقف إطلاق النار موضوع جد معقد في ضوء التطورات الجارية، ذلك أن القوات الحكومية السورية ستواصل بقوة تغيير موازين القوة العسكرية لصالحها بمساعدة القصف الجوي الروسي، ولعل التصريحات السورية لدليل مهم على أن القيادة ماضية في مواصلة النزاع إلى أن تحقق نجاحاً استراتيجياً على الأرض، يتمثل إما في استعادة حلب بشكل كامل، أو محاصرة مقاتلي المعارضة في جيوب جغرافية محددة.
وبالرغم من التشاحن الدولي تحديداً بين روسيا وتركيا حول الملف السوري، إلا أن هذا لن يعني الذهاب إلى حرب مفتوحة بين البلدين أو مقدمات لحرب واسعة، بصرف النظر عن التصريحات الروسية التي صدرت عن رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف الذي حذر قبل أكثر من أسبوع، من احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة في حال فشلت المفاوضات في حل الأزمة السورية.
الموقف الروسي هذا يعني أن دمشق تمثل خطاً أحمر بالنسبة لموسكو التي ستحافظ على مصالحها الاستراتيجية هناك "بالباع والذراع"، ويعني أيضاً رسالة شديدة اللهجة إلى الدول التي تختلف معها حول سورية، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
واشنطن تدرك أن الذهاب إلى تعميق النزاع في سورية سيعني توسع الحرب ودخول أطراف مختلفة فيها، وهذا ليس من صالحها ولا من صالح روسيا التي تراهن على الموقف الأميركي في تهدئة الأتراك الذين يتحمسون لفرض منطقة آمنة تتزامن مع عملية برية في سورية.
الآن أو غداً ليس هناك من حرب عالمية ثالثة، وما سيحدث هو استمرار إدارة النزاع على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وهذا ينسحب أيضاً مع موضوع وقف إطلاق النار الذي سيخضع قبل تنفيذه لعمليات جراحية سريعة، سيتبعها في نهاية الأمر مفاوضات بين فرقاء النزاع السوري.
عاجلاً أم آجلاً سينتهي النزاع السوري سواء بالجهد العسكري أو بالجهد السياسي، لكن واضح أن كل طرف يسعى إما لتقليل خسائره أو تحقيق إنجازات تدعم مواقفه وشروطه، وفي حال اختلال موازين قوى النزاع على الأرض فإن قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" ستشهد تحولات لصالح الطرف الأقوى.
وعلى كل حال يمكن القول إن السرعة الزائدة التي تتحرك على أساسها القوات الحكومية السورية لاستعادة مناطق مهمة وحيوية في سورية، تعني أن النظام السوري يناور نحو تغيير قواعد اللعبة السياسية، وحرف مسار المفاوضات السياسية إلى حيث يريد.
أخيراً يمكن القول: إن لدى النظام السوري "موال" في رأسه يرغب في تحقيقه خلال فترة زمنية قصيرة، حيث أنه يحاول الآن فرض قوته على مختلف قوى المعارضة المعتدلة، وحينها سيستكمل عملياته ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، وحين ذاك لن يكون في الميدان من يقدر على مواجهة التنظيمات المتشددة غير القوات الحكومية السورية، الأمر الذي سيغير من طبيعة الاصطفافات الدولية.
-