يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الغاشم والعنيف على قطاع غزة، لليوم الـ210 على التوالي، والذي طال البشر والحجر والطير والنبات، وأسفر عن استشهاد حوالي 40 ألف مدني ما بين نساء وأطفال وشيوخ ورجال، عدد كبير منهم لا زال تحت الأنقاض، وإصابة 77816 مواطن.
وفي ظل تلك الهجمة المسعورة على القطاع والتي بدأت في السابع من أكتوبر من العام الماضي، كان هناك العديد من جولات المفاوضات بين حركة حماس وحكومة الاحتلال الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، وتمكنت إحدى تلك الجولات بالاتفاق على هدنة في نهاية نوفمبر 2023 وكانت مدتها أسبوع، ونص على إطلاق سراح 50 محتجزًا في غزة، مقابل 150 أسيرًا فلسطينيًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وبنهاية 26 فبراير أطلقت حماس سراح 41 محتجزًا إسرائيليًا، وأطلقت سلطات الاحتلال سراح 78 أسيرًا فلسطينيًا كجزء من الاتفاق، ويتم الحديث حاليًا عن عقد اتفاقية هدنة بين الجانبين برعاية مصرية، إلا أن هناك العديد من العقبات تواجه عقد مثل تلك الاتفاقية.
وحول مدى إمكانية تنازل حكومة الاحتلال عن محور نتساريم والميناء الجديد، والذي تعتبره من إنجازات في سبيل تنفيذ الصفقة، أشار الكاتب والباحث السياسي، سميح خلف، إلى أن منطقة "نتساريم" هي نقطة الضعف في خاصرة قطاع غزة، ومن خلال احتلال "إسرائيل" لقطاع غزة منذ العام 1967 إلى انسحابها أحادي الجانب من غزة عام 2005 بأنها على دراية تامة بمناطق الضعف الاستراتيجي والطبوغرافي في القطاع، ولذلك يكتسب هذا الخط الواصل من الشرق في منتصف قطاع غزة (صلاح الدين) وصولًا لشارع الرشيد على البحر أهمية استراتيجية لكل من "إسرائيل" وبرامجها وأهدافها في الحرب، ويكتسب أهمية أيضًا بمعرفة المقاومة لتلك الأهمية، وهي تمثل استراتيجية لها في مقاومة هذه النوايا بكل الوسائل القتالية والدبلوماسية.
وقال خلف، في حديثه لمراسلة "خبر": "إن من إنجازات الهجوم البري للاحتلال هو تكريس الوجود الدائم على هذا الخط، بل توسيع هذا الخط ليمتد إلى شمال "نتساريم" مسافة كيلة ونصف وإلى الجنوب على حدود مخيم النصيرات في منطقة المغراقة، ومدينة الزهراء"، مُبيناً أنّه لذلك ما زال هناك قصف مستمر لتلك المناطق، وهناك مقاومة لإرهاق هذا الوجود في تلك المنطقة، فكلا التصورين يدخلان في حسابات الطرفين بين رؤية نتنياهو وحكومته المتطرفة.
وتطرّق إلى تصريحات نتنياهو يوم الثلاثاء الموافق 30 أبريل بتصريح أفاد فيه بأنه "لا يمكن الانسحاب من غزة انسحابًا مطلقًا"، وهنا يصد بالتأكيد منطقة "نتساريم" التي يمكن أن يجهز لها بؤر استيطانية، حيث قام بإنشاء ثلاثة طرق حتى الآن تصل من الشرق إلى شارع الرشيد على البحر طريق للمركبات الخفيفة، وطريق للآليات، وطريق يصل للميناء، مشيرًا إلى أن قضية الميناء فهي تحتاج لتلك الطرق لتأمين عملها فهي تحت حراسة أمنية إسرائيلية، وهنا الهدف الإسرائيلي هو عدم الانسحاب من تلك المنطقة فهي تحتوي على أهمية استراتيجية ومناطق واعدة من الغاز وحقول الطاقة، وهي ما ترغب به كلًا من أمريكا وبريطانيا و"إسرائيل".
وأكد على أنه في حالة واحدة يمكن أن تنسحب "إسرائيل"، وهذا يعتمد على قوة الميدان وقوة أداء المقاومة والذكاء التفاوضي للوفد الفلسطيني المفاوض وأوراق القوة الإقليمية إن وُجدت، والدولية ثانيًا، والتصور السياسي لمقولة وجوب الاعتراف بدولة فلسطينية في الضفة وغزة، وبتصور لنظام سياسي جديد مطلوب من الفلسطينيين أن يحققوه، وطبيعة المبادرة المصرية، ومدى تنفيذ بنودها، بحيث يكون هناك بند مُلزم لانسحاب قوات الاحتلال من كل مناطق غزة بناءً على رؤيا تحقيق تلك الدولة والاعتراف بها، ويمكن القبول بمرحلية الانسحاب التدريجي المتزامن، بحيث تتراجع قوات الاحتلال إلى عُمق نصف كيلو متر من الحدود الشرقية في جُحر الديك.
فيما ذكر الأكاديمي والمختص في الشؤون الدولية د. علاء أبو عامر، أن الاحتلال يحاول السيطرة على محور نتساريم ولكن عمليات المقاومة الفلسطينية من تفجير وإطلاق قذائف هاون وصواريخ قصيرة المدى يجعل هذه السيطرة مُكلفة، بالإضافة إلى أن الاقتراح الصهيوني المقدم باسم مصر حول صفقة تبادل الأسرى ينص على الانسحاب من المحور، حيث أورد في تقرير لإذاعة جيش الاحتلال أن "إسرائيل" مستعدة للنظر بشكل إيجابي في انسحاب كامل من ممر "نتساريم"، وبالتالي المحور هو ورقة ابتزاز للمفاوضات وليس استراتيجية طويلة الأمد، أي أنه أداة تكتيكية لتحقيق أهداف مرحلية.
وأضاف أبو عامر، في حديثٍ خاص بوكالة "خبر"، أن الميناء الأمريكي والمعلن أنه للمساعدات الإنسانية، ورحبت السلطة برام الله بإنشائه، وحماس لم تُعلن معارضتها حيث أفاد القيادي في الحركة أسامة حمدان بأنه للمساعدات، ولا خشية منه، ووفقًا لصحيفة "بوليتيكو" فإنه من المتوقع أن يبدأ الرصيف البحري عملياته الجمعة الموافق 3 مايو 2024 لنقل المساعدات إلى قطاع غزة، وعليه فلا خشية من هذان الأمران.
ونوّه إلى أن هناك تهويل لا أساس له يدور حول كلاهما وربطهما باحتلال مستمر لشمال القطاع، والمعطيات تُشير لغير ذلك أن جيش الاحتلال سينسحب في النهاية من كامل قطاع غزة، مؤكدًا على أنه ليس لأنه لم يعد يطمع في أراضي قطاع غزة، بل بسبب المقاومة والضغط الدولي وفشله في تهجير مئات الآلاف من سكان شمال قطاع غزة، رغم الدمار والمجازر التي ارتكبها وما زال يرتكبها.
وفيما يتعلق بالمعطيات مع جولات المفاوضات والمتسبب في عدم تنفيذ الصفقة، وإن كان للاعتبارات الشخصية من كلا الطرفين دور في إعاقة تنفيذ تلك الصفقة، ذكر خلف، أن النظام السياسي الإسرائيلي بشقيه والموقف الأمريكي والغربي بصفة عامة، جميعهم متفق على أولوية إعادة الأسرى، وكذلك المدخل الإنساني لما سببته الهجمة البربرية على الحالة البيئية بكامل جوانبها في قطاع غزة، وهي ما سببت إحراج لكل النظام الدولي الحر في العالم، وليس من المناسب أو الموضوعي أن نضع التعطيل في كفة الميزان المعتدل والمتزن بين رغبات الاحتلال ومطالبه ورغبات المقاومة ومطالبها من حيث اللاشرعية والشرعية.
وأوضح أنه استنادًا لقرارات الأمم المتحدة وموقف المجتمع الدولي الذي يُطالب بوقف إطلاق نار شامل في غزة، هذا المنطق وإن كان بالإجماع فإن عيوبه هو تكريس الاحتلال في مناطق بغزة كمنطقة الميناء و"نتساريم" وبدون برنامج شامل ولو كان مرحليًا للانسحاب الكامل، مشيرًا إلى تصريح أصدره نتنياهو بأنه سيدخل رفح بهدنة أو بدون، وهناك تصريح آخر لاجتماع بين بن غفير ونتنياهو يهدد فيه الأخير إن لم يدخل رفح فهو يعلم ماذا سيحدث بعد ذلك، أي يهدده بانهيار الحكومة، والاختلاف بين القوى المختلفة في "إسرائيل" المتطرفين والمعتدلين والتقدميين هو أولوية إدارة ملف الأسرى الإسرائيليين وإخراجهم، ومن ثم الحلقة التالية التعامل مع المقاومة، وعلى رأسها حماس والجهاد.
وبيّن أنه من خلال تصريحات نتنياهو الواقعة تحت ضغط التوراتيين وأهدافهم الكبرى في تحويل دولة الاحتلال إلى دولة دينية وإخراجها من مفهومها العلماني، كما حدد وجودها الغرب منذ التأسيس، فهو يخدم مصالح فئة سياسية تُسيطر على النظام السياسي الإسرائيلي ببرنامجه وأهدافه الاستراتيجية.
فيما أكد أبو عامر، على أنه من الواضح أن نتنياهو وفريقه هم المتسبب الرئيسي بوقف وتعطيل إتمام كافة الإجراءات الكفيلة بتحقيق صفقة تُنهي الحرب، مبينًا أنه بحسب أعضاء الوفد الإسرائيلي المفاوض كان نتنياهو يمنحهم صلاحيات لإتمام صفقة صباحًا ويسحبها في المساء، في عملية خداع لغانتس وأيزنكوت وغيرهما، وهذا الأمر أصبح مُعلنًا.
وأوضح أن نتنياهو يرى في الصفقة إن تمت ستكون نهاية لحكومته، غير عابئ بأرواح جنوده وآلام عائلاتهم، ولا بالدمار والمجازر ومعاناة أبناء الشعب الفلسطيني، فهو يبحث عن صورة نصر مهما كانت باهتة ليقدم نفسه كبطل سحق أعداء الصهيونية وانتصر عليهم، وذلك لم يتحقق حتى الآن ولن يتحقق قريبًا، كما تُشير أغلب التقارير الصادرة عن محللين عسكريين أمريكان وغرب ويهود.
وفي ظل تراجع الدور القطري وبروز الدور المصري كلاعب أساسي في الوساطة، أكد خلف على أن غزة تُمثل أمن قومي مصري مهم جدًا، فهي تمثل عُمق استراتيجي جغرافي وإنساني وتاريخي وتكويني في هوية أبناء قطاع غزة، إضافة إلى الجانب الثقافي، وكون "إسرائيل" ما زال لديها حالة وظيفية في المنطقة، وإن كانت معاهدات السلام هي الضابطة في "كامب ديفيد"، فـ"إسرائيل" تعتبر أن القوة والاقتصاد المصري إن صحّ هو تهديد استراتيجي لهم، وما زال الشعب المصري والمؤسسة المصرية ترى أن "إسرائيل" كوجود هي تهديد لمصر بما يستوجب اليقظة والتنبه لكل البرامج الإسرائيلية والأمريكية الخاصة بالمنطقة.
ونفى، أن إسناد الدور التفاوضي والمبادرة المصرية التي طُرحت مؤخرًا تراجعًا للدور القطري، أو إهمالًا للدور المصري، بل هي أوراق لها مكامن قوة وضعف بالنسبة للطرفين، مبينًا أن كلًا من قطر ومصر لها مقومات قوة في التفاوض، والضغط على طرفي الصراع، ومن الأهمية الإشارة إلى محور فيلادلفيا وما يمثله لمصر من خط أحمر استراتيجي، يجب أن لا يقع بالمطلق في يد "إسرائيل" وهو ما تنظر له الأخيرة بالأهمية لثلاث مناطق عازلة في غزة أمنية وهي: محور فيلادلفيا، و"نتساريم" و"إيرز"، والمنطقة الأمنية التي تم تحديدها حوالي 2 كيلو متر، وهي المناطق التي حددها الاحتلال الإسرائيلي للبقاء في غزة، ومصر بدورها حذّرت من عملية رفح واجتياح خط فيلادلفيا، كما وحذّرت من عملية نزوح مرافقة لتلك العملية كرغبة إسرائيلية في تفريغ قطاع غزة من سكانه.
كما ذكر أبو عامر، أنه وفقًا لرئيس هيئة الاستعلامات المصرية ضياء رضوان، والعديد من التصريحات الصادرة عن الجانب المصري فإن مصر تُعارض معارضة قاطعة أي اجتياح لرفح، لأسباب تتعلق باتفاقية كامب ديفيد وخرقها إن تمت العملية أو نظرًا للأزمة الإنسانية وإمكانية تدفق اللاجئين الفلسطينيين إليها بالآلاف إن حدثت العملية البرية هناك، مُرجحًا أن التلويح بعملية في رفح قد تكون عملية ابتزاز سياسي لا أكثر، فكل التقارير تُشير إلى أن جيش الاحتلال ولا حتى المستوى السياسي قادر على تنفيذها، كونها ستكون معقدة وبلا جدوى عسكرية سوى إلحاق دمار هائل في المدينة، وسيكون حالها حال خان يونس وغزة.
وأفاد بأن الأخبار في الآونة الأخيرة واستنادًا لإذاعة جيش الاحتلال تُظهر أن المنظومة الأمنية الصهيونية تبحث بدائل لعملية واسعة النطاق في رفح، مثل تنفيذ عملية محددة الهدف على محور فيلادلفيا لقطع طرق التهريب عن حماس، مستدركًا أن حتى تلك العملية المحدودة غير مُمكنة إلا بموافقة مصرية كونها تخترق معاهدة السلام بين البلدين، نافيًا موافقة مصر على ذلك.
وحول المؤشرات التي من الممكن أن تُساعد في تنفيذ الصفقة في ظل تطور الأحداث الأخيرة وخاصة ثورات الجامعات، ذكر خلف، أن وسائل إعلامية أمريكية ذكرت أن "الأيباك" يجد صعوبة في التعامل مع فئة الشباب في الحزب الديمقراطي والجمهوري وتحوّل ثقافة تلك الشباب لمساندة الشعب الفلسطيني وإظهار العداء للسلوك الإسرائيلي في التعامل مع الحقوق الفلسطينية، مشيرًا إلى أن هؤلاء الطلاب في الجامعات وهيئات التدريس هم من فئات الشباب، قطعًا شيء إيجابي وتحوّل كبير ولكن يجب أن لا ننظر لهذه الظاهرة بأنها قد تستطيع تغيير الموقف الأمريكي على المدى القريب، بل ربما على المدى البعيد، كون أمريكا يقودها لغة المصالح الأمنية والاقتصادية.
وتطرق إلى موقف الكونغرس الأمريكي الأخير مما يمكن أن ينجم من قرارات لمحكمة العدل الدولية أو الجنائية من أمر اعتقال لبعض مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين وتهديد الكونغرس باتخاذ إجراءات مضادة لهذا القرار، فالجانب الفلسطيني يمكن أن يتساهل في طبيعة صفقة الأسرى ويتفاوض حولها، بينما قضية بقاء قوات الاحتلال في غزة بشكل دائم ذكر أنه لن يكون هناك أي طرف فلسطيني سيتنازل كي يبقى الاحتلال جاثمًا على غزة.
وأشار إلى أن الأوراق الضغطة تتمثل في الصمود الميداني للمقاومة والتحرك الإقليمي الدولي بما يستوجب الاستقرار في المنطقة، فهناك عدة جبهات مُشتعلة وتوقف الملاحة في البحر الأحمر وتضرر الملاحة في قناة السويس والموقف الثابتة للمملكة العربية السعودية بأي أي اتفاق أمني وتطبيعي مع "إسرائيل" يجب أن يكون له محددات أولها البدء بإجراءات عملية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية بموجب قرار 242 والمبادرة العربية، فالتطبيع مع السعودية رقم مهم في المنطقة ولذلك فالموقف السعودي من الأوراق المهمة الضاغطة في مستقبل قطاع غزة والمنطقة بأكملها.
من جانبه، ذكر أبو عامر، أن الضغط الدولي الأمريكي لا يتحرك إلا حرصًا على إنقاذ "إسرائيل" من نفسها ومن رعونة وعدم خبرة وأنانية قادتها الحاليين كنتنياهو وسموتريتش وبن غفير، والأمريكي الذي شارك مشاركة فعالة خططًا وعمليات وقيادة وحماية دولية في العدوان على قطاع غزة، أصبح يعي أن الواقع الأمريكي والعالمي والإسرائيلي الداخلي تغير لمصلحة فلسطين وحريتها.
وأشار إلى أن المظاهرات والاعتصامات تجتاح الجامعات الأمريكية وانتقلت للأوروبية، وفلسطين وقضيتها باتت رقم واحد على الصعيد العالمي، والتضامن مع فلسطين يجتاح شوارع المدن الأوروبية والعالمية والمقاطعة للشركات الأمريكية باتت سمة عالمية، وأثرت تأثيرًا كبيرًا على هذه الشركات الداعمة للاحتلال، مضيفًا أن هناك ترابط متين بين ساحات النضال اليمنية بالحصار البحري على ميناء "إيلات"، واللبنانية بجعل الحياة شمال فلسطين المحتلة شبه معدومة مع تزوح مئات آلاف المستوطنين، والفلسطينية التي حوّلت قطاع غزة إلى مستنقع لجنود الاحتلال، حيث القتلى والجرحى في صفوفهم بشكل يومي حسب بيانات الجيش.
وختم حديثه بالقول: "إنَّ كل تلك العوامل وغيرها هي عوامل تدفع وستدفع الولايات المتحدة وحلفائها وعملائها في المنطقة للجم حكومة نتنياهو الفاشية لوقف حربهم كي لا تصل الأمور إلى فتق لا يمكن رتقه بين الحكومات وشعوبها، ويصبح الدفاع عن وجود "إسرائيل" جريمة بحد ذاتها، وهو أمر بات يتبلور لدى الرأي العام في الدول الغربية".