نشرت صحيفة نيويورك تايمز في الـ 25 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) مقالاً بعنوان: "على إسرائيل أن تختار بين رفح والرياض" (Israel has a choice to make: Rafah or Riyadh)، للكاتب الأميركي توماس فريدمان، المعروف بصلاته الوثيقة مع إدارة الرئيس جو بايدن. يُوجّه المقال في ظاهره نقداً عنيفاً للسياسة التي ينتهجها رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في قطاع غزّة، غير أنّ أهميته العملية تَكْمُن في قدرته على إلقاء ضوء ساطع على رؤية إدارة بايدن لكيفية إنهاء الحرب، التي لا تزال مشتعلة فيه. وتنطوي تلك الرؤية، وفق ما يتضح من المقال، على ثلاثة عناصر مُحدَّدة. الأول، يتعلّق بمعارضة الخطط الإسرائيلية الرامية إلى القيام بعمليةٍ عسكريةٍ واسعة في رفح والموافقة، في الوقت نفسه، على مواصلة إسرائيل ضغطها العسكري على "حماس"، ولكن بوسائل أخرى تختلف عن أسلوبها الراهن. الثاني، يرتبط بالجهود المبذولة لتشكيل قواتِ حفظ سلام عربية تتولّى مُهمّة تحقيق الأمن في القطاع إبّان فترةٍ انتقاليةٍ تجرى خلالها عملية تجديد للسلطة الفلسطينية كي تصبح مؤهّلة لإدارة القطاع، فيما بعد. الثالث، يتعلّق بالتزام العمل على إقامة دولة فلسطينية، ولكن بشرطين: تشكيلُ تحالفٍ إقليميٍ لمواجهة إيران، تشرف عليه الولايات المتّحدة، وتشارك فيه إسرائيل. وتطبيعٌ كاملٌ للعلاقة بين السعودية وإسرائيل.
في تبريره الأسباب التي تدعو إدارة بايدن للاعتراض على الخطط الإسرائيلية لاجتياح رفح، قدّم فريدمان مُبرّرات عديدة، أكثرها أهمّية: التكلفة الإنسانية العالية التي قد تترتّب على هجوم برّي واسع على منطقة صغيرة يتكدّس فيها ما يقرب من مليون وربع المليون من البشر، واحتمال فشل الهجومِ المُزْمَعِ في تحقيق الأهداف المتوخّاة منه (تدمير الكتائب المقاتلة المُتبقيّة، وتصفية القيادات العسكرية لحركة حماس، واستعادة الرهائن) مثلما فشلت الهجمات التي شُنّتْ على شمال القطاع ووسطه من قبل. وأخيراً، حاجة إسرائيل الماسّة إلى استراتيجية خروج قد تصبح شبه مُستحيلةٍ إذا ما أصرّت على اجتياح رفح، ما قد يعرّضها للغوص عميقاً في وحل غزّة، ورمالها. وبعد تأكيده على أنّ هذا الاجتياح سيؤدي حتماً إلى إفشال الخطط الأميركية الرامية لإيجاد تسوية للقضية الفلسطينية تحافظ على المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، ذكر فريدمان أنّ أحد كبار المسؤولين الأميركيين أسرَّ له صراحة: "نحن لا نقول لإسرائيل اتركوا (حماس) كما هي، لكنّنا نعتقد أنّ هناك طريقة أكثر فاعلية لملاحقة قيادات (حماس) من دون اللجوء إلى تسوية رفح بالأرض". وللتأكيد على جدّية مُعارَضَة إدارة بايدن لاجتياح رفح، كشف فريدمان سراً خطيراً، قائلاً: "أخْبَرَني مسؤولون أميركيون أنّه إذا شنّت إسرائيل عملية عسكرية كبيرة في رفح، رغم اعتراض الإدارة، فإنّ الرئيس بايدن سيفكّر في تقييد مبيعات معينة من الأسلحة لإسرائيل" (!)
عن رغبة الإدارة الأميركية في تشكيل قوات حفظ سلام عربية، أشار فريدمان إلى أنّ الهدف من هذه الخطوة هو مساعدة إسرائيل في العثور على استراتيجية خروج "كي لا تظلّ عالقة في غزّة والضفّة الغربية إلى الأبد". وبعد أن أشار إلى أنّ بعض الدول العربية، التي وافقت على مناقشة هذه الفكرة من حيث المبدأ، تشترط وقفاً دائماً لإطلاق النار أولاً، وإلى أنّ منظّمة التحرير الفلسطينية باتت مستعدّة لمباركة هذه الخطوة التي يُحتمل أن تُقدّم لها الولايات المتحدة دعما لوجستياً، حرص فريدمان على تأكيد أنّ إدارة بايدن "لم تتّخذ بعد أيّ قرار في هذا الشأن، لكنّ الفكرة لا تزال قيد الدراسة النشطة".
تطبيع العلاقة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية كان هو الجزء الذي حظي بالاهتمام الأكبر من جانب فريدمان. فبعد الإشارة إلى أنّ إدارة بايدن تضع حالياً اللمسات الأخيرة على "اتفاق أمني أميركي سعودي إسرائيلي فلسطيني"، أكّد أنّ المُكوّن الأميركي السعودي هو الأكثر أهمية، وأنّه يشمل ثلاثة عناصر. الأول، يتعلّق بإبرام اتفاقية دفاع مشترك تنصّ صراحة على أنّ أيّ عدوان يقع على أيّ من البلدين يُعدّ عدواناً على كليهما، ويتيح الثاني للسعودية تسهيل حصولها على أكثر الأسلحة الأميركية تقدّماً، فيما يتيح الثالث للسعودية تملّك برنامجٍ نوويٍ يسمح لها بالاستفادة من اليورانيوم المُخصّب على أرضها واستخدامه في أنشطة مدنية. وعلى السعودية، في مقابل ذلك، أن توافق على كبح جماح الاستثمارات الصينية داخل المملكة، وعلى أن تعتمد على الأسلحة الأميركية وحدها، لبناء أنظمتها الدفاعية من أجيال تالية، وعلى استضافة عددٍ من مراكز معالجة البيانات الضخمة التي تحتاجها شركات التكنولوجيا الأميركية لاستغلال الذكاء الاصطناعي، وعلى أن تُطبّع علاقاتها مع إسرائيل في حال "التزم نتنياهو بحلّ الدولتين بعد تجديد السلطة الفلسطينية". وأخيراً، أن تشارك مع الدول العربية "المُعْتَدِلة" الأخرى، ومع الحلفاء الأوروبيين الرئيسيين، في "بُنية أمنية واحدة مُتكامِلة لمواجهة التهديداتِ الصاروخية الإيرانية". ويعترف فريدمان، في مقاله المُثير، باستحالة موافقة السعودية على تطبيع علاقتها مع إسرائيل وعلى المشاركة في تحالف إقليمي ضدّ إيران، من دون موافقة إسرائيل على الانسحاب الكامل من قطاع غزّة، وعلى إقامة الدولة الفلسطينية، كما يعترف، في الوقت نفسه، باستحالة تمرير المطالب السعودية في الكونغرس الأميركي من دون موافقة ودعم إسرائيل.
لست في حاجة هنا للقول بأنّ وضع هذه الرؤية موضع التطبيق تكتنفه صعوبات عديدة، أغلبها سوف يأتي من الجانب الإسرائيلي نفسه. فالتركيبة الحالية للحكومة الإسرائيلية لا تسمح مطلقاً بالتقدّم، ولو قيد أُنْمُلَة، في اتجاه حلّ الدولتين، بل وستدفعها للاعتراض بشدّة على أن يكون للسعودية برنامج نووي يسمح لها بتخصيب اليورانيوم على أراضيها، ولعدَم التحمّس كثيراً لفكرة أن تُصبح السعودية في وضع سياسي وقانوني يتيح لها الحصول على الأسلحة الأميركية الأكثر تطوراً، لأنّها تريد أن تحتكر لنفسها هذه الميزة التي مكّنتها من الاحتفاظ بتفوّقها العسكري على الدول العربية مُجتمعةً لسنوات طويلة. ما يعنينا في المقام الأول، هو مناقشة ما قد تنطوي عليه هذه الرؤية من مساوئ ومخاطر بالنسبة للعالم العربي. وفي هذا هناك مجموعة من الملاحظات، يمكن تلخيص أكثرها أهمّية على النحو التالي:
تتعلق الملاحظة الأولى بموقع حركة حماس من هذه الرؤية. فمن الواضح أنّ إدارة بايدن تتبنّى بالكامل الموقفَ الإسرائيلي الرامي إلى شيطنة الحركة، ومعها كلّ فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة، وتجريمها، والتعامل معها باعتبارها منظّمات إرهابية وليست حركات وطنية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. ولأنّ إدارة بايدن تُدرك أنّ لبعض الدول العربية خلافاتٍ أيديولوجيةً وسياسيةً عميقةً مع هذه الفصائل، خاصة مع حركة حماس، يبدو لي أنّها تسعى إلى استغلال هذه الخلافات وتعميقها من أجل دفع الدول العربية إلى دخولٍ في صدام مباشر مع المقاومة الفلسطينية المسلّحة، والعمل على نزع سلاحها قبل قيام دولة فلسطينية مُستقلّة على أرض الواقع، أي خلال المرحلة الانتقالية، التي يُفترض أن تسبق قيام هذه الدولة. بعبارة أخرى، يمكن القول إنّ رؤية الإدارة الأميركية الحالية تهدف إلى تمكين إسرائيل من أن تُحصّل بالوسائل الدبلوماسية ما لم تستطع الحصول عليه بالقوّة العسكرية، ومن خلال حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها على القطاع.
تتعلق الملاحظة الثانية بتأثير رؤية الإدارة الأميركية الحالية على التقارب السعودي الإيراني، بصفة خاصّة، وعلى التقارب العربي الإيراني بصفة عامة. فمن الواضح أنّ الإدارة الأميركية الحالية لا تنظر بعين الارتياح أبداً إلى الاتفاق الذي سمح بعودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، خصوصاً أنّه جرى برعاية صينية، كما لا تشعر بأيّ ارتياح تجاه ما قد يفتحه من آفاق أمام تطبيع العلاقات العربية الإيرانية، بعد فترة طويلة من التوتّر الناجم عن محاولاتٍ مُستميتةٍ لإشعال الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة، وهو ما يُفسّر استمرار حرص إدارة بايدن على تشكيل تحالف إقليمي سنّي موجّه ضدّ إيران الشيعية، ترعاه وتقوده بنفسها، وتشارك فيه إسرائيل. والنجاح في تشكيل هذا التحالف لن يكون في مصلحة أيّ من الدول العربية ولا في مصلحة المنطقة إجمالاً، وسيمثّل نكسة شديدة وعودة إلى الوراء بدلاً من التطلّع إلى الأمام.
تتعلق الملاحظة الثالثة بتأثير هذه الرؤية في الصراع المُحْتَدِمِ حالياً بشأن قيادة النظام الدولي، التي تعكس قلق الولايات المتحدة من اتساع وتزايد النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، والحرص الشديد على استعادة النفوذ الذي خسرته فيها لمصلحة هاتين القوّتين اللتين تنافسانها على قيادة النظام الدولي. ونجاح إدارة بايدن في وضع رؤيتها الخاصّة للمنطقة موضع التطبيق لن يمكّن الولايات المتّحدة، من استعادة نفوذها المفقود في هذه المنطقة فحسب، وإنما أيضاً، سيمكّن حليفتها الأولى إسرائيل لتصبح القوّة الإقليمية الأكثر أهمية فيها.
ممّا تقدّم، الرؤية التي تطرحها إدارة بايدن لوضع نهاية لحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل على غزّة، وكما تتجلى من ثنايا مقال توماس فريدمان، تهدف، قبل كلّ شيء، إلى استغلال الصراع الدائر حالياً في المنطقة لتجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها، ولإعادة إشعال الصراع الطائفي بين إيران والدول العربية، من دون أن تضمن أبداً قيام دولة فلسطينية مستقلّة وذات سيادة حقيقية على الأرض المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية.