فــي الــنــكــبــة

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم د عاطف أبو سيف

 

الآن وبعد ست وسبعين سنة ما زالت نكبتنا مستمرة. في نفس تلك الأيام قبل هذه السنين كان أجدادنا يتعرضون لأهوال النكبة، وكانت تباد البيوت فوق رؤوسهم وتدمر الحقول والبيارات ويركض القاتل في الشوارع وبين البساتين يلاحق الأطفال والشيوخ ليقتلهم    بهمجية لم تمر في تاريخ البشرية. 
مشهد لم يتوقف. اختلفت السنون وظل القاتل وسلالته يواصلون مهمتهم البشعة. 
كان يجب أن نكنس مثل الغبار عن عتبات البيوت وقت النكبة، لكننا بقينا ولم نختفِ، لم تنجح النكبة في أن تزيلنا من متن الزمكان ولا من تخوم الوعي العام، بقينا سردية، صحيح أنها سردية مظلومة ومفترى عليها لكنها السردية الوحيدة التي تتطابق مع وجه البلاد وتفاصيلها وتاريخها وجغرافيتها. 
لم نوجد في هذه البلاد لنموت، ولم نصنع من قطعة الأرض هذه بلاداً حتى نرحل عنها ولم نمنحها اسمها حتى ندع الغرباء يسرقونها، كما لم نمنح جغرافيتها الأسماء ولا علمنا طرقاتها المسير ولا نحن روضنا موج بحرها ولا نثرنا القمح في وديانها ولا زرعنا الزيتون فوق سفوح جبالها، ولا تسامرنا فوق كثيب رمالها حتى نتركها ببساطة لأن ثمة من أراد أن يسرقها منا. ولأنها جميلة ولأن اللصوص يسرقون الدرر. لم يكن هذا مجرد تاريخ ولا هو قصة خيالية من نسيج أساطير ولا تفسيرات لاهوتيين يطمحون إلى أن يتاجروا في الدين من أجل قتل  المؤمنين.
كانت هذه الحياة والحياة الوحيدة التي عرفناها ولم نعرف ولن نعرف غيرها. 
إنها الحياة التي تجعل منا فلسطينيين، وتجعل فلسطين لا تشبه أحداً غيرنا ونحن لا نشبه غيرها. 
الحياة التي تجعل يافا أجمل مدينة في العالم والقدس أقرب نقطة بين الأرض والسماء وتجعل حيفا مثل زمردة على تاج الكرمل ومن عكا حجاباً أمام البحر ومن غزة شوكة تمزق قلوب الغزاة، الحياة التي تجعل نسيج المجدل أفضل نسيج في العالم، كما برتقال يافا أعطر برتقال يفوح من بيارات معطرة بحب الأرض، ومن قلاع البلاد فوق رؤوس الجبال فواصل بين صفحات كتب التاريخ ومن سهول البلاد مروجاً تجري فيها حكايات وقصص لا يمكن لكل روائيي العالم أن ينسجوا بعضاً منها. 
إنها البلاد التي غنينا لها وتغزلنا بكل شبر فيها وقلنا فيها الموال والعتابا والدلعونا، وضربنا الأرض بأقدامنا نعيد التأكيد على التصاقنا بها خلال دبكتنا. 
لم نعرف شيئاً لا يقول عنها ولا يقود لها. أغانينا وأهازيجنا وترويدات أمهاتنا لنا وهن يجلبن النوم من الحمام الطائر حتى يحط في عيوننا، وأثوابنا التي زركشناها بكل تفاصيل فلسطين وصبغناها من الأرجواني الذي أخذه أجدادنا من البحر، وحتى ما نملك من أحلام ومن أمانٍ كله مرتبط بها. 
إنها البلاد التي تشبهنا ونشبهها والتي تعني لنا الأرض والبلد والموطن والحلم والمبتغى. 
لا شيء خارجها قد يقود إليها ومنها يمكن أن ترى الكون وتعرف بديع صنع الخالق. 
أراد الغزاة أن نرحل. أن نفنى. أن ننتهي. أن نتبخر. لكننا بقينا رغم نكبتنا ورغم تهجيرنا. ظلت البلاد فينا أينما حللنا وظلت الجزء الأهم في التعريف على أنفسنا وفي توصيف حالنا. 
الخيمة ليست قدرنا، والخيمة لن تعني لنا البيت مهما طالت المذبحة ومهما تواصلت المقتلة. الخيمة ستظل خيمة لا شيء آخر. الإشارة المؤكدة أن هذا الكابوس سيزول. لا نملك خياراً آخر إلا أن نظل في البلاد، نبقى حيث وجدنا نحرس حلم من ذهب منها ومن اضطرته النكبة لمغادرتها فيما يحرسون هم تخوم الحلم على عتبات الانتظار. 
ونظل نمسك بجمرة النار نفيق من الرماد ونحلق ثم نعود فالطيور لا تعرف إلا أعشاشها ونحن لا نعرف إلا البيت الذي نريد فنحن من سمينا العشرات من مواطننا باسم «بيت» من بيت لاهيا وبيت حانون إلى بيت داراس وصولاً إلى بيت لحم وبيت عفا وعشرات البيوت التي تعني بيتاً واحداً: فلسطين. 
قد نعيش في الخيمة وقتاً لكنها الخيمة التي يطل الثقب الصغير في قماشها على رحابة البلاد، والتي تتوهج فوقها الشمس كما تتوهج على خصاص البيوت في يافا وعلى قباب المآذن وتلمع على أجراس الكنائس في القدس والناصرة. 
إنها الخيمة التي نكتب عليها وجعنا حتى نتذكر أن هذا القماش ستحمله الريح ويبقى الوجع تذكاراً لأننا لا نريد أن ننسى، نريد أن نظل نتذكر كل ما فعله الغزاة بنا، وكل ما ارتكبوه من مجازر وكل ما اجترموه من فظائع. 
الآن وبعد ست وسبعين سنة ما زال أحفاد الغزاة الذين قتلونا في النكبة يواصلون ما بدأه أجدادهم بمحاولة اقتلاعنا من البلاد. لا يرحمون. وكما امتلأت أساطيرهم بدمنا ما زالت أيديهم تواصل قتلنا بكل ما يملك العالم من سلاح يهبهم إياه ونحن لا نملك من العالم إلا أضعف الإيمان في أحسن الأحوال، لكننا نمتلك إرادتنا وإيماننا بحقنا نرضعه من أمهاتنا ونتعلمه في أبجديات اللغة التي كان لأجدادنا الفينيقيين شرف تقديمها هبة للعالم، الآن وبعد كل هذا العمر ما زلنا نقول إننا عائدون لأننا لا نملك أي خيار آخر، ولأننا لا نريد أي شيء آخر. 
نحب كل بلاد العالم لكننا نحب فلسطين أكثر من أن تحتمل الكلمة بكل لغات الأرض الحية والميتة. لن نقنط من رحمة الحرية.
والبلاد على تنوعها وتعددها وعلى عمق جذورها وطبقات التاريخ فيها لا تتسع إلا لحلمنا لأنه الحلم الذي ارتبط بوجودها، الحلم الذي يتأسس على إنسانية الوجود، إنه الحلم الأشمل والأكثر رحابة لأنه حلم لا يقوم على التطهير والتمزيق ولا على النفي والتقتيل. 
حلم كان حقيقة في الماضي حيث كنا نعيش سواسية لا فرق في دين ولا في طائفة. 
كان حلمنا الفلسطيني هو ما جعل هذه البلاد بلاد الله، البلاد التي استوطنها الإيمان وترعرعت فيها كل تأملات الباحثين عن الخالق. إنها البلاد التي نريد وستكون كما أردناها دائماً.