كانت جنوب إفريقيا الدولة البعيدة في أقصى القارة تنتصر لغزة في اصطفاف طبيعي للمظلومين الذي مرر التاريخ سياطه الحادة على ظهورهم، فاجأت العالم ولم تفاجئه فاجأت من حيث كونها الدولة الأولى في العالم التي تتهم اسرائيل بارتكاب إبادة جماعية رغم العدد الكبير من العرب وغير العرب المؤيدين للشعب الفلسطيني، ولم تفاجئ كونها الدولة التي تذوقت مرارة الاستعمار ويعتبر حزب المؤتمر الوطني أن الكفاح الفلسطيني امتداد طبيعي لتاريخه الكفاحي ضد النظام العنصري.
قبل أن ترفع جنوب أفريقيا الدعوى إلى محكمة العدل الدولية كانت قد جهزت نفسها بكفاءة نادرة، فلم يفلت منها أي تصريح لمسؤول إسرائيلي يعزز القضية، وتعرضت لضغوطات كبيرة حتى لا تصل إلى المحكمة وهي تدرك أن للغضب الأميركي الإسرائيلي ثمنا كبيرا لكنها لم تساوم على ضميرها الأخلاقي الذي تركه الراحل مانديلا وصية للأبناء والأحفاد.
ذهبت جوهانسبرغ إلى أقصى مدى غير آبهة بالثمن بل فخورة بما تفعله كما قال رئيسها. لكن السماء لم تسقط عليها حمماً كما كان يعتقد كثير من الذين يبررون تلكؤهم في الوقوف ضد جرائم الجيش الإسرائيلي التي تدوس كل المواثيق والأعراف الدولية والمؤسسات المكلفة حمايتها.
بعد عشرة أيام، ستجري انتخابات الجمعية الوطنية في جنوب أفريقيا، وواضح أن الولايات المتحدة واسرائيل تحضران للتأثير على الانتخابات التي ستتم في التاسع والعشرين من هذا الشهر للعمل على الإطاحة بحزب المؤتمر الوطني الذي يحكم الدولة منذ ثلاثة عقود بدأت بإسقاط النظام العنصري العام 94 وتسلم الرئيس التاريخي نيلسون مانديلا صديق الفلسطينيين الحكم وبعده أربعة رؤساء بضمنهم الرئيس الحالي الشجاع سيريل رامافوزا.
منذ ثلاثة عقود، يفوز حزب المؤتمر الوطني بالأغلبية الساحقة في انتخابات الجمعية الوطنية التي تضم 600 عضو وتنتخب الرئيس، ويشكل حكوماته دون الحاجة لتحالفات أو شراكات لكنه تراجع في الانتخابات الأخيرة العام 2019 ليحصل على نسبة 57% وهذه أقل نسبة يحصل عليها الحزب، ما يشكل خطراً على مستقبل قيادته للدولة خاصة في ظل منافسين يتحضرون للانتخابات، يقودهم التحالف الديمقراطي الذي أجرى تحالفات مع ستة أحزاب معارضة مستغلاً الضغوط الاقتصادية وتراجع مستوى المعيشة وأزمة الفساد في الحزب الحاكم وانقسامه إلى الحد الذي فشل فيه في التوافق على رئيس للحزب بين الرئيس السابق جاكوب زوما والرئيس الحالي رامافوزا.
لا يمكن استبعاد التدخل الأميركي خلال السنوات الماضية للتضييق على جنوب أفريقيا وإنهاك اقتصادها خصوصاً بعد فقدان الولايات المتحدة لنظم صديقة في القارة، لأن جوهانسبرغ أخذت تتجه شرقاً بعلاقاتها مع بكين وموسكو ما أغضب الدول الغربية ثم جاءت القضية التي تصدرتها في المحكمة الدولية ضد اسرائيل ومحاولتها استصدار قرار بارتكاب اسرائيل جريمة الإبادة الجماعية لتضعها أو حزبها الحاكم كهدف للإطاحة به، وخصوصا مع تغيير قانون الانتخابات والسماح للمستقلين بالترشح لثلث الجمعية الوطنية ما يعني أن حزب المؤتمر بات ينافس على 400 مقعد أي الثلثين إلا إذا تمكن من تحقيق اختراقات بين المستقلين.
ماذا سيحدث للدعوى إذا ما فشل الحزب الحاكم في الحصول على الأغلبية وخسر الحكم؟ سؤال بات يشغل المهتمين بمتابعة الملف والفلسطينيين بشكل خاص وقد أجاب عن هذا السؤال الباحث فؤاد بكر وهو يتابع الضغوطات الأميركية لتغيير النظام في جنوب أفريقيا بالانتخابات بعد أن فشلت في الضغط عليه للحيلولة دون تقديم الدعوى.
يقول: لا يمكن لجنوب أفريقيا سحب الدعوى لأن قانون المحكمة سيحرم للأبد أي دولة تسحب دعوى من تقديم أي دعوى أخرى، وخصوصاً أن هناك ثلاث دول أخرى انضمت للدعوى وكذلك أعلنت مصر انضمامها ولا يمكن لأي نظام أيا كان أن يخسر هذا الامتياز. لكن الباحث بكر يقول: إن الدعوى ستفقد زخمها فيما لو تغير النظام السياسي لصالح نظام غير مهتم بالفلسطينيين بل لقضاياه الداخلية وعلاقاته الخارجية، وهناك شك أن تستفيد واشنطن من التوجهات الخارجية لأن بين المعارضة حزب «المقاتلون الأحرار» ثالث أكبر حزب سياسي وهو حزب يساري مناهض للرأسمالية ولا يمكن للمعارضة أن تشكل حكومة بدونه، لكن الأمر هنا يتعلق بالقضية ضد اسرائيل وهذا كافٍ لواشنطن وتل أبيب في المرحلة الحالية.
هنا تكمن أهمية انضمام أكبر عدد من الدول للدعوى خلال الأسابيع القادمة لأن باب الانضمام سيغلق في تموز القادم، صحيح أن انضمام نيكاراغوا وكولومبيا وليبيا يضمن استمرار زخم ما ولكن ليس كالدولة الرئيسة التي عملت على الملف منذ بدايته وتحمل روح القضية وتفاصيلها، وهنا تأتي أهمية انضمام مصر كدولة عربية وتنبع أهمية وجودها كدولة كبيرة وبها أكثر القانونيين العرب كفاءة، فالعام القادم، ستحتفل بمئوية إقامة كلية القانون بجامعة القاهرة، وثالثاً لأن تفاصيل المعاناة الفلسطينية تمتلئ بها أدراج وملفات الدولة المصرية لقربها السياسي والجغرافي من الملف ولأن انضمامها يشجع انضمام دول أخرى.
الدول العربية التي لا تعترف بإسرائيل لا يمكنها الانضمام للدعوى، فانضمامها كما تقول الجزائر يعني اعترافها بإسرائيل. ولذا يبقى الأمر محصورا على الدول التي تقيم علاقات مع تل أبيب وربما يشجع الإعلان المصري دولاً عربية على التحرك. وفي هذا ما يجيب عن السؤال الصعب: لماذا تقدمت جنوب أفريقيا فيما اختفى العرب؟.