قطاع غزة...قبل أن يأتي الأسوأ

ناجي شراب
حجم الخط

من أجمل ما توصف به غزة هذا الصغير الجميل، لما منحها الله من مناخ جميل ومعتدل، وساحل بحري من أجمل السواحل، ولطيبة أهلها وانفتاحهم على كل الثقافات.

تحول هذا الصغير الجميل إلى صغير متوحش بعد تجذر حالة الإنقسام بين حركتي «فتح» و«حماس»، وسيطرة الأخيرة على غزة عام 2007، وما ترتب على ذلك من هجرة البعض من أهلها. وما عاشته من حروب ثلاث في غضون ست سنوات.

وتاريخيا تمتعت غزة بشخصية وليس هوية مستقلة ذاتية، بفعل العامل الجغرافي الذي ما زال يشكل محددا لكل خياراتها وتوجهاتها وشخصيتها. فاحتضنت بعد حرب 1948 الآلاف من اللاجئين الذين أجبروا على ترك منازلهم بسبب المجازر التي ارتكبتها المنظمات الصهيونية ، وقامت فيها أول حكومة عموم فلسطين برئاسة موسى العلمي، وخضعت وحتى عام 1967 للإدارة المصرية التي أعظم إنجازاتها الحفاظ على الهوية الفلسطينية، وفتحت للفلسطينيين جامعاتها فحقق سكان القطاع نسبة عالية من التعليم لأنهم يرون فيه مستقبلهم، وحمل سكانه وثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين التي حافظت على هذه الهوية.

وهي من احتضنت منظمة التحرير، وكان أبناؤها أول من تجندوا في جيش التحرير الفلسطيني.

وتاريخيا تشكل غزة أحد المراكز والمحطات التجارية بين الشرق والغرب، ووفدتها القوافل التجارية الإسلامية التي تركت من الآثار على أرضها. وبقيت غزة تلعب هذه الوظيفة التجارية حتى يومنا هذا، وتاريخيا ارتبطت غزة بمصر، وعبرها وعبر معبر رفح الذي كان يحمل الاسم فقط، لفتحه باستمرار، ولقد انعكست هذه الطبيعة التجارية على ثقافة اهل غزة، والتي من أبرزها الإعتدال والإنفتاح على ثقافات الآخرين، والبعد عن الثقافات المتشددة والمتطرفة، فهي بخصائصها الجغرافية والطبوغرافية ، والسكانية شكلت بؤرة نشاط تجاري.

وهذه الخصائص جعلتها تنبذ الخيارات العسكرية، وهي التي تتناقض مع خصوصيتها الجغرافية والإقتصادية والسكانية، ولعل من أبرز نتائج هذه الثقافة المعتدلة الإحتضان العضوي الكامل بين مسيحيي ومسلمي غزة لدرجة يصعب معها التمييز بين المسيحي والمسلم، فالمسيحي أقرب إلى المسلم، والمسلم أقرب إلى المسيحي. ولقد جسدت غزة الهوية الوطنية الفلسطينية، وحافظ على ذلك دور الإدارة المصرية التي حرصت مصر ان تبقى غزة أنموذجا للشخصية الفلسطينية، فحافظت على طابعها، ومنح سكانها وثيقة سفر للاجئين حفاظا على هويتهم، وفتحت الجامعات المصرية أمام ابنائها مما رفع من مستوى التعليم ومنذ أن نشأت منظمة التحرير انخرط أبناء القطاع في جيش التحرير وكانوا نواته الصلبة.

وبقي القطاع طوال سنوات الإدارة المصرية محافظا على طابعه التجاري والثقافي، ولعل أبرز ما ميز غزة في هذه المرحلة ارتفاع مستوى التعليم ، ويعزى الفضل لمصر التي ساهمت في تعليم ابناء القطاع من خلال البعثات التعليمية التي جاءت لغزة ، وإستمرت هذه المرحلة إلى ان إحتلت إسرائيل القطاع عام 1967، وبقية الأراضي الفلسطينية لتحقيق وحدة الأراضي الفلسطينية بالإحتلال وتتواصل غزة مع بقية أراضي وشعب فلسطين في الضفة بل وفي الداخل.

وبقيت غزة تشكل النواة الصلبة للنضال والإنتتفاضة لتشهد اول إنتفاضة، و مما جعل غزة إسما له حضوره الإقليمي والدولي ان أرضها كانت اول من أستقبل الرئيس الراحل ياسر عرفات، وشكلت مركزا للسلطة ومؤسساتها، وتوافدت عليها البعثات العربية والأجنبية ، وشهدت حركة من النهضة العمرانية والتعليمية والإقتصادية حولتها لمنطقة حاضنة وجاذبة . وكان يفترض ان تقدم غزة نموذجا تنمويا وديموقراطيا للدولة الفلسطينية ، فشهدت اول انتخابات مع بقية الأراضي الفلسطينية في الضفة ، وكانت أول جلسة للسلطة التشريعية تسجل وتعقد على أرضها ، وتوافدت عليها كل الوفود من كل مكان، واستمر هذا الوضع حتى الإنتخابات الثانية والتي فازت فيها حركة «حماس» عام 2006، لتدخل غزة مرحلة سياسية جديدة نزع عنها كل الإنجازات السابقة.

ومع فوز حماس في الإنتخابات تحولت غزة إلى مسرح للمواجهة والخلافات والصراع بين حركتي «فتح» و«حماس»، وبدأ الصراع على القيادة ـ متجاهلين هوية وخصوصية غزة ، لتنتهي التطورات بسيطرة «حماس» الكاملة على غزة.

وبدأت مرحلة الإنقسام في التجذر، وبدأت ملامح هوية جديدة مغايرة تبرز، وبدلا من ان تكون غزة نواة صلبة للدولة والوحدة، تحولت لحالة من الإنقسام الذي اخذها بعيدا، ولتدخل غزة حالة من الحصار الشامل من قبل إسرائيل، وتنقل كل مراكز السلطة إلى الضفة الغربية وتحل مكانها مؤسسات وسلطة حماس، ولتبدأ مرحلة جديدة من المواجهة مع إسرائيل لتقود إلى ثلاث حروب جبت عدداً كبيراً من الشهداء والجرحى والحصار دمرت البنية التحتية ، وهجرت رأس المال فيها إلى الخارج، لتضمحل فرص العمل، وتغلق المصانع ، ويزداد الإغلاق وتقفل المعابر، وتعود غزة إلى منطقة مغلقة عانى أهلها من تدهور شامل في مرافق الحياة بسبب الحصار. وبسبب سياسات الحصار والذي سببه الإنقسام، وسيطرة الموجهات الأمنية، وسيادة الخيارات العسكرية والتلويح دائما بخيار الحرب، وبسبب الاغلاق المستمر للمعابر، بدأت تبرز العديد من المشاكل الإقتصادية والإجتماعية من إرتفاع نسب البطالة والفقر، والمفارقة أو الإشكالية الكبيرة التي حافظت عليها غزة ، انها إستمرت في المحافظة على الطابع التعليمي، بزيادة عدد الجامعات والمعاهد التعليمية، وزيادة نسب الإقبال عليها فلا خيار إلا التعلم، والإشكالية الثانية الزيادة المضطردة في عدد السكان ليصل اخيرا إلى مليونين على مساحة صغيرة.

والإشكالية الثالثة تقلص الأراضي الزراعية بسبب الحاجة للبناء, ومما فاقم الأمور تعقيدا انه بدلا من أن تحول غزة لبؤرة تنمية وتقدم وتطور تحول لثكنة عسكرية، وبروز الأفكار والجماعات المتشددة وساعد على ذلك اتساع رقعة الفقر والبطالة مما شكل الشباب معه ذخيرة لهذه الجماعات. وسيطرت العديد من حركات المقاومة الجهادية.

ومما ساهم في تعقيدات الحياة في غزة إرتباطها بالتطورات السياسية في مصر، وخصوصا بعد فقدان «الأخوان» الحكم في مصر والدخول في مواجهة بين حركة الأخوان والدولة في مصر، وأمتد هذا الوضع إلى غزة لإرتباط حركة حماس بالإخوان.

هذه الإشكالية حولت غزة لبيئة طاردة إقتصادياً، بسبب تقلص فرص العمل ـ والتخوف من تجدد الحرب والآن تعيش غزة في مشكلة مركبة وممتدة، وخياراتها باتت محدودة، وهي أقرب الى الخيارات العنفية، او خيارا التفجر الداخلي.

واليوم تعاني غزة من إشكاليات ومشاكل متداخلة لا تقوى على مواجهتها بمفردها الخيارات السائدة، فمن هذه الإشكاليات زيادة السكان المضطردة والإقبال نحو التعليم، وهما مفارقتان في حالة غزة في الوقت الذي تزداد فيه فجوة الفقر والبطالة، والإنسداد الجغرافي، وصغر المساحة، تبدو صعوبة الحياة الآدمية فيها.

وفي ظل هذه الإشكاليات تبدو الخيارات محددة وكلها خيارات داخلية تتجه نحو مزيد من احتمالات التفجّر الداخلي، وتفاقم المشاكل الإجتماعية التي قد تسبب إنهيار البنية الإجتماعية والمنظومة الثقافية ،اما خيار الحرب وهو الخيار الأسوأ فمن شأنه أن يفاقم من مشاكل غزة لا أن يعمل على حلها. هذه الإشكاليات تفرض البحث عن الحلول السريعة قبل ان تنفجر غزة على ذاتها.