لوحظ أن رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف بنيامين نتنياهو، لم يكتف بالتصريحات النارية لوزير أمنه القومي إيتمار بن غفير، والتي تطاول فيها على الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو_ أي نتنياهو استبق جولة وزير خارجية بايدن الخامسة للشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر الماضي، بإطلاق تصريحات تصر على مواصلة الحرب، حتى تحقيق الهدف المستحيل وهو القضاء على «حماس»، كما يقول، أو مسح قطاع غزة من على الخريطة كما هي حقيقة الأمر، وذلك لأنه يعرف بأن جولة الوزير الأميركي جاءت بهدف فتح الطريق الصعب أمام صفقة التبادل التي باتت منذ وقت هدفاً رئيسياً للإدارة الأميركية، في حين هي ليست كذلك لنتنياهو وشركائه في التطرف الفاشي.
ومن تابع تصريحات نتنياهو وقرأ بلغة الجسد حركات يديه وتعبيرات وجهه، يدرك بكل وضوح، بأن العصبية تملأ رأس وجسد الرجل، الذي يواجه الضغوط المتعاكسة، ومن العديد من الأطراف، لدرجة بات معها المراقبون يتساءلون: الى متى سيصمد، أو سيظل يكابر، ويمضي في طريق مسدود، يضع فيه بلاده في مأزق في نهاية المطاف، وكل ذلك من أجل أن يبقى هو واليمين المتطرف الذي بات ليس شريكه وحسب، بل ضمانته في الحكم، بعيداً عن الخروج المهين، ليس كفاشل أمني وحسب، ولكن كمدان قضائياً أيضاً وبالأساس.
وآخر مظاهر حالة الفوضى والخلافات التي تعصف داخل إسرائيل وبينها وبين واشنطن، كان بالطبع تصريحات بن غفير لصحيفة وول ستريت جورنال التي أشرنا إليها في مقالنا السابق، ثم رفضه هو لقاء بلينكن خلال زيارته لتل أبيب برئيس هيئة الأركان هيرتسي هاليفي، وذلك حتى يحصل بلينكن على تقييم أمني من جهة الاختصاص، وليضع حداً لتضليل نتنياهو للبيت الأبيض، بادعائه تحقيقه انجازات أمنية، رغم أن واشنطن كانت تقدر منذ بداية الحرب عجز إسرائيل عن تحقيق أي من أهدافها العسكرية والسياسية، سواء تلك المعلنة أو الخفية، فضلاً عن عدم وضوح تلك الأهداف وعدم دقتها وواقعيتها، وأكثر من ذلك كان نتنياهو، الذي يقف حجر عثرة في طريق هدف واشنطن المتمثل بعقد صفقة التبادل، قد منع رئيس الموساد ديفيد برنياع من الموافقة على مطلب «حماس» بتضمين إطار باريس بند أسبوع من توقف القتال بين كل مرحلة وأخرى، من مراحل مشروع الاتفاق الثلاث، وذلك دون علم لا الكابينت ولا المجلس الوزاري المصغر، وذلك استناداً الى أن رئيس الموساد مرتبط مباشرة برئيس الحكومة، وليس من صلاحياته أن يقدم أي معلومات للحكومة دون موافقة رئيسها.
ومع إعلان قطر عبر رئيس حكومتها وزير خارجيتها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بعد لقائه بلينكن عن وجود رد إيجابي من «حماس» على إطار باريس، بات الضغط مضاعفاً على نتنياهو الذي ظل يراهن على رفض «حماس»، ولم يخرج رغم اجتماع حكومته لمناقشة إطار باريس، بالرد، في انتظار أن تعفيه «حماس» من رفض الإطار ومواجهة واشنطن والوسطاء، هذا مع العلم بأنه كان مشاركاً في «صنع إطار باريس» عبر رئيسَي «الموساد» و»الشاباك»، وليس كما «حماس» التي لم تشارك بالطبع، لذا كان من حقها الطبيعي ان تقبل او ترفض الإطار المذكور، أي انه مع مرور الوقت يتضح أكثر فاكثر بأن نتنياهو خاضع في موقفه تجاه الصفقة لاعتباراته السياسية، وهذا يعني أن يزداد احتمال خروج بيني غانتس وحزبه من حكومة الحرب، حيث سبق لغانتس أن أعلن بأنه لو اتضح له بأن نتنياهو يرفض الصفقة لاعتباراته السياسية فإنه سيخرج من الحكومة، وفي هذه النقطة بالتحديد الخلاف واضح بين الطرفين، حيث أن معسكر الدولة يمنح الأولوية كما المعارضة ومتوافقاً مع واشنطن، لإطلاق سراح المحتجزين على مواصلة الحرب.
وإزاء إصرار نتنياهو ومعه الى حد ما وزير الحرب يوآف غالانت على مواصلة الحرب، بادعاء القضاء على «حماس» يظهر التساؤل عما يعنيه هذا، فلو أن الجيش الإسرائيلي قد حقق بعضاً من أهدافه العسكرية، لربما كان في ذلك القول بعض الوجاهة، أي أنه بنفس تلك الوتيرة يمكنه أن يكمل ما حققه حتى الآن، وباختصار نقول بأنه بعد أربعة أشهر من الحرب المنفلتة من عقالها، من قبل إسرائيل، فإن أياً ولا حتى جزءاً مما ادعت بأنها ستحققه قد تحقق، بالتحديد إطلاق سراح المحتجزين، حيث تأكد بأن الحرب لن تنجح في تحريرهم أحياء، فهم إما أن يطلق سراحهم وفق صفقة مع «حماس»، أو يقتلون بالنيران الإسرائيلية. كذلك فيما يخص تدمير الأنفاق، لم تقدم إسرائيل أية أدلة على تدمير حتى الأنفاق في شمال القطاع ومدينة غزة، حيث ادعت بأنها قد انتهت من مناورتها البرية فيهما، كذلك لم تقبض ولم تقتل، ولا على أي من قادة «حماس» المطلوبين أو المركزيين.
أي أن الفشل الأمني ما زال يلازم الحرب الإسرائيلية، إلا اذا قلبنا المنطق، وقلنا بأن أهداف إسرائيل ليست كل ما ذكر، لا المحتجزين ولا الأنفاق ولا قادة «حماس» أو سحق «حماس» أو ما الى ذلك، ولكن تحويل قطاع غزة الى مدن أشباح، بمسحه عن الخريطة وإفراغه من السكان، بقتلهم وتهجيرهم، قسرياً، أو قسرياً بغلاف طوعي، فجعل القطاع غير قابل للحياة، ما هو إلا تهجير قسري، ومواصلة الحرب بعد فشل إسرائيل الأمني مجدداً، بالعثور على يحيى السنوار ورفاقه في خان يونس، لدرجة أنها بدأت تقول بأن عمليتها في خان يونس شارفت على الانتهاء، وأنها باتت تفكر في مواصلة الحرب بانتقالها الى رفح، وفي رفح تبدو المهمة مستحيلة مع وجود نصف سكان القطاع كنازحين فيها، كذلك لوجود معبر فيلادلفيا وقصة الاحتكاك مع مصر.
ويتضاعف الأمر تعقيداً مع وجود الجبهات الأخرى المشتعلة، والتي هي على حافة احتمال اندلاع الحرب الشاملة فيها، خاصة الضفة الفلسطينية، حيث أن الحرب الإسرائيلية طالتها عسكرياً مع قتل مئات الفلسطينيين واعتقال الآلاف منهم، والاجتياحات اليومية، كذلك مواصلة منع أموال المقاصة، ومنع العمال من الذهاب لما وراء الخط الأخضر، وكل هذا مع اقتراب شهر رمضان الذي عادة ومنذ سنوات يشهد مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين والمستوطنين ومعهم الجيش والشرطة الإسرائيلية، ومواصلة نتنياهو وبن غفير وسموتريتش الضغط السياسي، رغم تقديرات الجهات الأمنية بخطورة كل هذه الإجراءات.
ولا ننسى أيضاً بأنه مطلوب من إسرائيل بعد أيام أن ترد بتقرير تفصيلي على ما طلبته منها محكمة العدل الدولية، التي لم تقل نصاً بوقف فوري لإطلاق النار حين أعلنت قرارها، لكنها وافقت على حيثيات الدعوى التي تتهم إسرائيل بارتكاب حرب الإبادة الجماعية، وأن التقرير الإسرائيلي يجب أن يقنع المحكمة بأنها لا تقوم بتلك الحرب، وفي الواقع إسرائيل ومنذ أن صدر قرار المحكمة لم تتوقف عن استهداف المدنيين بمعدل 500 مدني فلسطيني بين شهيد وجريح يومياً.
وقد جاءت اللحظة التي على نتنياهو أن يحسم أمره فيها، أي تحديد خياره بين بن غفير وسموتريتش وبين واشنطن، كما سبق لبايدن وأن طالبه بأن يفعل، وبعد أن منحه يائير لابيد حبل النجاة من طوق التطرف الفاشي، ها هي «حماس» بردها المرن على إطار باريس، والذكي للغاية الذي لم يصر على مطلبها من حيث الشكل بوقف الحرب نهائياً، لكنه قال برد لا يغلق الباب ولا يفتحه على غاربه، يساعدها في ذلك الصمود الميداني، فيما كانت ملاحظاتها على إطار باريس تحقق جوهر إفشال الهدف الإجرامي من الحرب الإسرائيلية، وهو تهجير أهل غزة، فهي طالبت بإعادة غزة للحياة وبخروج القوات الإسرائيلية، وباختصار العودة الى ما قبل 7 أكتوبر، وكأن الحرب بين الطرفين كانت عبثاً، وأن الأفضل لهما أن تنتهي بلا غالب أو مغلوب، وفقط انتهت الحرب بدمار هائل لغزة وقتلى ومصابين ومعاقين، وكذلك بقتلى إسرائيليين، وبجدار من الكراهية بين الطرفين سيستمر سنوات طويلة قادمة، لكنها أي الحرب أكدت مجدداً ضرورة الحل السياسي، الذي يتجاوز دعاة استمرار الحروب بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتنحي طرفيها عن التحكم بمصير الجانبين.
أي أن الملاحظات كلها قد تناولت مطالب لا تنكرها واشنطن، ورفضها من قبل إسرائيل يكشف حقيقة أن نتنياهو يهدف إلى إعادة احتلال ومن ثم استيطان غزة، فيما التنفيذ مضمون من قبل قطر ومصر وتركيا وروسيا، أميركا والأمم المتحدة، وبين التفاصيل والمراحل، ما يضع العوائق أمام نكوص إسرائيل وعودتها للحرب بنفس الوتيرة على الأقل، وهكذا وضعت «حماس» بردها، الذي لم يكن بمقدور إسرائيل رده فوراً، الحبل حول عنق نتنياهو، بحيث لا يبدو بأنه بات أمامه خيار المراوغة، فإما المضيّ بالحرب وحيداً، وإما وقفها، وخروجه الآمن من مسرح السياسة.