في الموجة الأولى من الكفاح الفلسطيني، ونتحدث هنا عن الفترة منذ مطلع القرن العشرين وحتى النكبة 1948 لم يتبلور تنظيم فلسطيني مركزي بحيث يقود النضال الوطني، وتلتف من حوله الجماهير والقوى والأحزاب؛ فقد برزت شخصيات قيادية مثل الشيخ القسام، وحسن سلامة، وعبد القادر الحسيني وغيرهم من القيادات العسكرية.
ومنذ الثلاثينيات بدأت تتشكل أحزاب وقوى سياسية، لم يتمكن أي منها من تصدّر المشهد، وسرعان ما اتخذت الطابع العشائري، ما أدخلها في صراعات بينية، وصلت حد التصفيات.
في النصف الثاني من القرن الماضي بدأت الموجة الكفاحية الثانية، متمثلة بانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة، وتأسيس منظمة التحرير، ومن ثم انطلاقة العديد من الفصائل الوطنية.
وبعد أربع سنوات من تأسيسها هيمنت فتح ومعها الفصائل المسلحة على المنظمة، وأخرجتها من دائرة التبعية للأنظمة الرسمية، وحاولت الحفاظ على القرار الوطني المستقل، وتحريره من الوصاية والاحتواء.
ودون الخوض في تفاصيل السرد التاريخي، ما يعنينا هنا أن «فتح» منذ الانطلاقة 1965 وحتى انتفاضة الأقصى 2000 شكلت العمود الفقري للثورة، بصفتها التنظيم الأكثر شعبية، والأكثر حضوراً ومشاركة وفاعلية في الميادين العسكرية والسياسية وغيرها.
في الانتفاضة الثانية والتي كانت ربما آخر عهد فتح بالكفاح المسلح، جرى أمران، الأول: عسكرة الانتفاضة، ونزع طابعها المدني والجماهيري والسلمي. والثاني: صعود قوى الإسلام السياسي وبالذات حركة حماس، وتليها «الجهاد».
واختصاراً للكلام، سنركز على موضوع علاقة القوى الفلسطينية (حماس، وسائر الفصائل الأخرى) بحركة فتح، أو بمنظمة التحرير والسلطة الوطنية، وسندمج مرحلة ما قبل الانتفاضة، بالمرحلة التي تليها وصولاً إلى وقتنا الراهن، نظراً لتشابه الخصائص والسمات فيما نريد الحديث عنه تحديداً.
اتسمت تلك المرحلة بثلاث سمات أساسية، وهذا ينطبق على الجميع: فتح وحلفائها ومعارضيها وخصومها:
الأولى: كل الفعل النضالي الفلسطيني كان يجري دون خطة إستراتيجية موحدة، رغم وجودها في الكتب والأدبيات، لكن حتى هذه الأدبيات تقادمت وصار ضرورياً تطويرها وتحديثها، فضلاً عن أنه كان يجري التخلي عنها لصالح العمل الارتجالي، والانتظار، والاحتكام لردات الفعل، بعقلية بطريركية أبوية، ودون نهج مؤسساتي مبني على أسس علمية.
الثانية: لم تجرِ أي محاولة نقد ذاتي حقيقية، أو مراجعات شاملة، أو إعادة تقييم للموقف، أو محاولات لتصويب المسار.
في كل مرة نقول: «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، و»الوقت غير مناسب»، أو ننظر لأي نقد بوصفه تثبيطاً للعزائم، أو نمارس النقد بطريقة عدائية وتدميرية.
الثالثة: علاقات الفصائل الوطنية والإسلامية مع فتح (والمنظمة والسلطة) علاقة معارضة (وهذا جيد ومشروع وضروري)، ولكنها لا تشبه شكل المعارضة مع النظام في الدول الديمقراطية، والتي تقوم على أساس التكاملية والتنافس الإيجابي وتبادل الأدوار لخدمة هدف وطني مشترك؛ بل كانت علاقات تضاد وتنافر بمنطلقات إقصائية، وبنهج التفرد والإحلال، وتصيد الأخطاء، بتنافس سلبي وبمنهج التخوين والتكفير وتبادل الاتهامات وإلقاء المسؤوليات على الطرف الآخر.
وهذه النقاط كفيلة بتدمير وإفشال أي ثورة، حتى لو قادها شخص خارق بعبقريته وإخلاصه وشجاعته.. لأن نجاح أي ثورة يعتمد أساساً على الشعب، وعلى قواه الحية والفاعلة والمنظمة، شريطة أن تكون مبنية على أساس خطة إستراتيجية بعيدة المدى، وبرؤية واضحة، وبخطاب سياسي واحد، ونهج وممارسة موحدة في الفعل الثوري والمقاوم، وبعمليات مراجعة ونقد صادقة وشجاعة ودائمة.. وهذه شروط أساسية لا مجال للتهاون فيها.
على سبيل المثال من المفترض أن تلتقي الفصائل اليسارية مع فتح لاعتبارات فكرية عديدة، أبسطها أنّ فتح قادرة على استيعاب وتقبّل وهضم اليسار بأفكاره وتوجهاته وبرامجه، بل ودعمه وتقويته.. لكن فصائل اليسار تحالفت مع حماس (بخضوع وعلاقة تبعية، وتنكر لتاريخ اليسار) بدءاً من تأسيس ما عُرف بـ»الفصائل العشرة» التي شكلها النظام السوري لإفشال مسار مدريد (حتى قبل أن يتكشف مسار أوسلو)، وصولاً إلى تحالفهما معاً في أي انتخابات طلابية أو نقابية بهدف إفشال أي كتلة مقربة من فتح. مع العلم أن حماس بأيديولوجيتها وبرنامجها الاجتماعي ومنطلقاتها الفكرية وأولوياتها وأجنداتها (بصرف النظر إذا كانت صواباً أو خطأ) تتناقض مع كل ما يحمله اليسار من أفكار وعقائد وبرامج وتوجهات.
ولن أدخل في محاولة فهم أسباب ذلك، حتى لا نخرج عن الموضوع. فهذه الظاهرة تشمل النخب اليسارية والعلمانية (خارج فلسطين) التي صارت ترى في حزب الله، وإيران، وحتى طالبان وداعش نماذج ملهمة ومستعدة للتحالف معها!
بالنسبة لحماس (ما بعد انتفاضة الأقصى)، حيث بدأت لأول مرة تمارس الكفاح المسلح، وأخذت شعبيتها تتصاعد بشكل كبير ولافت، بعد أن تخلت عن نهجها الدعوي، وصارت فلسطين من ضمن أولوياتها (رغم أن الزهار وصف فلسطين بأنها مجرد مسواك، ولا تبدو على الخارطة، والعلم الوطني مجرد خرقة بالية..)، ما يعنينا هنا أن حماس تبنت برنامجاً سياسياً لا يختلف عن برنامج فتح، وبالتالي انتفت أسباب الاختلاف معها، وصار من المفترض أن تلتحم الحركتان في برنامج سياسي واحد مقاوم. لكن هذا لم يحدث، بل صار الانقسام!
مشكلة حماس أنها قدمت نفسها نموذجاً استثنائياً في التاريخ النضالي الفلسطيني، منقطعاً عن سياق التجربة النضالية الوطنية، ولم تبنِ على نتاج تراكماتها، واعتبرت أنَّ تاريخ المقاومة بدأ بها، ولا يستمر دونها، وبعد أن كانت تخوّن أطروحات فتح في الحل السياسي، وبرنامج الدولة الفلسطينية، جاءت وبعد أربعة عقود لتتبنى نفس البرنامج حرفياً، ولكن بالانفصال عن كل ما سبق.
بمعنى أنه عوضاً عن استمرارية العمل الكفاحي والبناء على ما تراكم عادت بنا حماس إلى المربع الأول! ولكنْ منقسمين!
تعالوا نتخيل لو أن كل الأطراف والقوى الفلسطينية تخلت عن التحزب والتعصب والحسابات الفئوية الضيقة، ونزعت عباءاتها الأيديولوجية، وكفّت عن الارتهان للخارج، ولم تدخل في لعبة المحاور الإقليمية وتحالفاتها، والعمل لمصلحة أجندات خارجية، وأقرت (قولاً وفعلاً) بأن الجميع شركاء في النضال الوطني، ومتفقون على هدف واحد، ومواجهة عدو واحد.. وبدلاً من تبادل الاتهامات، نبدأ بممارسة نقد ذاتي لتصويب المسار وتدارك الأخطاء، والكف عن المغامرات المتهورة.. فقط تخيلوا ماذا كان ممكناً أن يحدث؟
المسألة ليست توفيراً للمال والجهد والوقت والتضحيات الباهظة.. المسألة أننا دون ذلك سنظل نحصي الهزائم والخيبات، وسنظل ندفع ثمن التعصب الحزبي والغرور الأيديولوجي، وسنظل غارقين في الأوهام والخلافات وتمنيات الانتصار الموعود الذي فقدنا كل أسبابه.