بدأت جولة من جولات التفاوض، كالعادة، بزخم كبير أكسبها قدراً من الجدية الحضور الأميركي ممثلاً بويليام بيرنز مدير المخابرات الأميركية والوسطاء المصريون والقطريون، ويتم وضع صيغ واقتراحات وعرضها على الإسرائيلي أو تتم صياغتها بالشراكة بين بيرنز ومدير جهاز الموساد الإسرائيلي، ولكن وفي النهاية يلعب بنيامين نتنياهو لعبته التي تؤدي إلى إحباط كل تلك الجهود.
وكما كل الجولات هناك قدر من التفاؤل تشيعه الأطراف في البدايات، وأكثر التسريبات من الجانب الإسرائيلي تحمل قدراً هائلاً من التناقضات التي تتحرك بين تقدم في المحاثات حد الاعتقاد باقتراب الاتفاق، وبين الحديث عن استعصاءات تجيء متأخراً في نهايات الجولة التي تتدرج بين بدايتها ونهايتها، تبدأ متفائلة ثم تنتكس بما أصبح يشبه تقليداً اعتاد عليه الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي الذي يتعلق بقشة الوسطاء.
وفي كل مرة كان بنيامين نتنياهو العائق الرئيسي للتقدم، إذ تصطدم جهود الأطراف بصخرة مصالحه التي أصبحت واضحة، ففي الجولات السابقة التي شهدت ما يمكن أن أدى لعقد صفقة كان يختبئ خلف بيانات معنونة بمصدر سياسي كانت تحاول وضع العصي في دواليب المحادثات، رغم أن الصياغات التي كان يتم تقديمها كانت تجري بالاتفاق مع طاقمه وهو ليس بعيداً عن التفاصيل، لكنه دوماً يراهن على معارضة حركة حماس للصفقة. وفي اتفاق أيار الماضي الذي تمت كتابته بين بيرنز ومدير الموساد وهو اتفاق إسرائيلي بالكامل أيضاً، قام نتنياهو بحركة اجتياح ممر فيلادلفيا ليفجر كل شيء.
بداية هذه الجولة كتب الصحافي ناحوم برنياع في جريدة يديعوت أحرونوت بأن نتنياهو يبحث عن طرق إعاقة الصفقة لكن بشكل لا يبدو أنه السبب في تلك الإعاقة، أي يبحث عن وسائل التخريب كعادته دون أن يترك بصمة، أما عاموس هرئيل الكاتب في صحيفة هآرتس فقد وضع معادلة شديدة الوضوح تعكس تماماً كيف يفكر نتنياهو وحساباته الانتهازية الماكرة فيقول «عندما يكون نتنياهو بين صفقة تؤدي إلى إسقاط حكومته وبين تظاهرات لا تؤدي إلى إسقاطها سيختار التظاهرات لأنها أقل كلفة».
دوافع الصفقة كبيرة لكن كوابحها لا تقل كما كل مرة، فالدوافع أميركية مصرية قطرية وشارع اسرائيلي ومعارضة الجهاز الامني العسكري والجيش، أما الكوابح فتتمثل في شخص نتنياهو ومصالحه، وتكمن مأساة الصفقة وأسباب فشلها الدائم أن قرارها بيد من يملك الكوابح وليس الدوافع.
هذه المرة يحاول نتنياهو إشاعة أجواء متفائلة تمهيداً لاستقباله في الولايات المتحدة حيث سيلتقي الرئيس ويلقي خطاباً في الكونغرس في الرابع والعشرين من تموز، لذا لم يكن من المصادفة أن يتسرب من جهات يعتقد أنها قريبة منه بأن المفاوضات تحتاج إلى أسابيع وتلك الأسابيع كفيلة بتمريره حتى الوصول للكونغرس، وكذلك هي هامة لدخول الكنيست عطلتها الصيفية حتى تشرين الأول القادم يضمن فيها عدم وجود تهديدات على حكومته، وبعد ذلك ربما يذهب لتقديرات الكتاب الذين لا يثقون به ويعرفونه جيداً مثل بارنياع وهرئيل وغيرهما من النخبة السياسية الإسرائيلية المدنية والعسكرية التي أصبحت ترى الأمور بوضوح وتؤشر بأصابع اتهامها نحوه.
منذ مطلع الجولة وما حملته من نذر مبشرة سارع على غير عادته ولم يختبئ خلف مصادر مجهولة ليعلن شروطه أو لاءاته للصفقة، وهي شروط كفيلة بنسف الصفقة سواء بما يتعلق بالبقاء في ممر فيلادلفيا أو محور نتساريم، طبعاً بشروط التفافية غير مباشرة يحاول فيها التذاكي المكشوف، أو بما يتعلق بما قاله من خطوط حمراء تضمن له العودة للقتال ... هكذا يقول لحماس: أسرعوا بالموافقة على الصفقة لأستمر بالقضاء عليكم ولن أغادر المحورين، بل إن القوات الإسرائيلية ستبقى لتقوم بمهمة سحقكم ...هكذا يريد صفقة ...!
لدى نتنياهو مشكلتان، الأولى داخلية والثانية خارجية إذا ما تمت. المشكلة الأولى ممثلة بالجناح اليميني المتطرف الذي لا يكف عن التهديد بإسقاط الحكومة فيما لو رضخ نتنياهو لشروط حماس وأوقف القتال، ويبدو أن نتنياهو فشل حتى اللحظة في تطبيع شركائه وهم حصنه الأخير، خاصة أنه لو وافق هؤلاء على صفقة تنهي الحرب فإنها ستفتح على رئيس الحكومة أبواب جهنم من التحقيقات والملفات، أضيف لها تحقيق السابع من أكتوبر. فلماذا يسارع بتهدئة الحرب وتسليم نفسه للقضاء في حين أن استمرارها يشكل حصانة، مراهناً على انجازات تعيده لصناعة التاريخ بعد أن أخرجه السابع من أكتوبر .
الثانية تتعلق بالعلاقة مع ساكن البيت الأبيض، فقد فعل كل ما يستطيع لإهانة وإذلال بايدن ليسقطه وقد فعل ذلك خدمة لصديقه دونالد ترامب، فكيف يمكن أن يقوم بإهداء بايدن هذه الصفقة على أبواب الانتخابات؟ أليس في هذا ما يجعل ترامب الفائز ينقلب على نتنياهو ويتهمه بالخيانة؟ وقد اتهم ترامب نتنياهو بها بعد أن قام بتهنئة بايدن حين فاز في الانتخابات، أي أن ترامب غاضب من نتنياهو أصلاً وأن على رئيس وزراء إسرائيل أن يقدم شهادة حسن سير وسلوك تجاه الرئيس المجنون، فهل تساهم الصفقة بتلك الشهادة أم تزيد غضب ترامب؟
استعصاءات تغلبت كل مرة على الرغبات، ولم يتغير شيء سوى أن الانتخابات الأميركية تقترب يصبح خلالها موقع نتنياهو أقوى، وتضعف فيها مكانة الرئيس الأميركي أكثر ليطلب لقاء نتنياهو بعد أن وقف على الباب طويلاً.