لا توجد دولة في العالم تمارس إرهاب الدولة، وتقوم بعمليات الاغتيال بحق الأفراد الذين يقاومون احتلالها وعنصريتها وفاشيتها، مثل إسرائيل، وهي تمارس اغتيال الأفراد من قادة وكوادر سياسيين، وعسكريين، وحتى كتاب وفنانين، على أرض فلسطين وفي كل مكان، دون أن تراعي أو تحترم أراضي الدول الأخرى او سيادتها، ولم يقتصر مسلسل الاغتيالات الإسرائيلية، على الفلسطينيين وحسب، بل شمل العديد من العرب، من لبنانيين ومصريين وغيرهم، وقد مارست اغتيالاتها، في أكثر من مكان، في الشرق الأوسط وأوروبا على حد سواء.
والغريب هو أن إسرائيل كدولة تبدو بلا ذاكرة، أو أنها لا تتعلم مما سبق، أو أنها لا تتقدم الى الأمام، فهي وقد اقترب عمرها من الثمانين سنة، ما زالت تمارس هذا النوع من الحرب، بكل ما يثيره من اشمئزاز ورد فعل ضدها، دون ان تحسب أو تفكر بالمستقبل كثيراً، وهي ما زالت بعد كل هذه السنين، «دولة مكروهة» في الشرق الأوسط. والكل يذكر أنها مارست سلسلة من الاغتيالات في عقد السبعينيات ضد قادة وكوادر منظمة التحرير، إن كان في لبنان او في الدول الأوروبية، من باريس الى روما، وبيروت بالطبع، وقد طالت اغتيالاتها قادة سياسيين وحتى كتاباً، كان منهم وائل زعيتر في روما، ومحمود الهمشري في فرنسا، وباسل الكبيسي في باريس، وغسان كنفاني في بيروت، والقادة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في بيروت.
وفيما بعد اغتالت أبو جهاد في تونس، وياسر عرفات في رام الله، واحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي في غزة، وأبو علي مصطفى في رام الله، وفتحي الشقاقي في مالطا، والمئات من القادة وكوادر المقاومة المسلحة، في كل مكان، ولكن السؤال الذي لا يجيب عنه، بل ربما لا يسأله العقل السياسي/الأمني الإسرائيلي المريض الى حد الهوس والجنون وإدمان الكراهية، والذي لم يتورع حتى عن اغتيال إسحق رابين، لأنه وقّع «أوسلو»، هو هل أدت هذه الاغتيالات الى فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وحتى على مقاومة الآخرين من عرب ومسلمين لعربدتها وطموحاتها بإقامة الإمبراطورية الإسرائيلية الشرق أوسطية الكبرى؟ وبالطبع الجواب هو لا، فكل عمليات الاغتيال بحق قادة (م ت ف) في سبعينيات القرن الماضي، لم توقف الطوفان السياسي للمنظمة التي نالت عضوية الأمم المتحدة، وظفرت بالتمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ودفعت بالقضية الفلسطينية الى ان تصبح قضية العالم بأسره، وأغلقت الباب تماماً ونهائياً على «الحلم الصهيوني» بطمسها.
أما الاغتيالات التي مارستها إسرائيل بحق قادة وكوادر المقاومة، فلم توقف بالطبع استمرار المقاومة ميدانياً، بل على العكس تماماً، أجّجتها، وهذا ما حصل بعد اغتيال قادة «فتح» في بيروت، حيث واصلت (م ت ف) وجودها العسكري في لبنان حتى العام 1982، فيما واصلت الانتفاضة مقاومتها للاحتلال حتى فرضت على إسرائيل مدريد وأسلو، ولم تتوقف بعد اغتيال مهندسها أبو جهاد، أما الاغتيالات السياسية، فهي أقل تأثيراً بكثير، وقد سبق لإسرائيل وأن اغتالت قائدَي «حماس» خلال اقل من ثلاثة اشهر تتابعاً، نقصد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، ولم يهبط ذلك الاغتيال بسقف الحركة السياسي ولا بتأثيرها الميداني، بل على العكس تماماً، زادها توهجاً، وإصراراً. وفي الأمس القريب، وخلال الفترة الأولى من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، اغتالت إسرائيل في لبنان، نائب رئيس حركة حماس الشيخ صالح العاروري، وبالرغم من ذلك صمدت حماس والمقاومة في وجه ما يعادل عدة قنابل نووية أُلقيت على غزة خلال عشرة شهور مضت.
لكن إسرائيل بمواصلتها ممارسة فعل الاغتيالات بحق خصومها وحتى أعدائها السياسيين، تهبط من مستوى الدولة إلى مستوى العصابة، وكما قلنا، لم يسجل التاريخ دولة قامت بمثل هذا العدد من الاغتيالات بحق الخصوم والأعداء السياسيين، وعلى اكثر من أرض ومكان، وفي عدة اتجاهات وضد أفراد وجماعات ينتمون لأكثر من دولة، وهذا احد الجوانب التي تجعل من إسرائيل «دولة» غير طبيعية، ليس في نظرنا نحن الفلسطينيين، أو العرب وحتى المسلمين، بل في نظر العالم بأسره، الذي بات ينظر إليها بنفس النظرة التي نظر بها إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقاً. ها هي إسرائيل تدفع بالشرق الأوسط والعالم الى حرب عالمية، لو استُخدم فيها «النووي» لكانت النتيجة فناء البشرية، وذلك بعد أن واصلت إشعال الحرب في الشرق الأوسط منذ سبعة عقود وحتى الآن.
هذا بحسابات السياسة العامة، وفي الإطار العام، أما في التفاصيل، فإن إسرائيل التي مارست فعل الاغتيال أول من امس مرتين خلال اقل من 24 ساعة، في بيروت وطهران معاً، باتت «دولة مردوعة» تماماً، فهي رغم كل ما يتشدق به قادتها الفاشيون، الذين لا يعرفون إلا لغة القوة والتهديد، ولا تسمع كلمة سلام او تعايش او حلول سياسية على ألسنتهم، رغم كل ما يهددون به لبنان من العودة للعصر الحجري، فإنهم اعتبروا رغم انهم وضعوا إعلان توجيه الضربة لحزب الله ضمن إطار الرد على مصرع 12 طفلاً في مجدل شمس، اكتفوا بمحاولة اغتيال فؤاد شكر وقبل ان يتأكدوا من ان عملية الاغتيال قد نجحت او لا .
وهي ذاتها وبكل جبروتها العسكري المسنود بالقوة الأميركية الجبارة التي لا مثيل لها على وجه الأرض، تعجز عن الوصول الى يحيى السنوار بعد عشرة اشهر من حرق وتدمير غزة بالكامل، ومن اعادة «حرث» الأخضر واليابس فيها، بعد اجتياحات لعدة مرات لأكثر من مكان، وهي بهذا الشكل تجد أن الوصول للقادة السياسيين إن كان في بيروت او طهران، أسهل من الوصول الى قادة المقاومة الميدانيين إن كان في غزة أو في جنوب لبنان، وهذه المقارنة تفرض سؤالاً صريحاً، وهو اذا كان من الطبيعي ان تستهدف إسرائيل قادة إيرانيين في سورية بحكم ما هو معروف، مما تعرضت له سورية خلال اكثر من عشر سنوات مضت من حرب أهلية/دولية، دمرت البلد وأضعفت كثيراً من قوة النظام العسكرية والأمنية، وإذا كان يمكن لإسرائيل أن تغتال قاسم سليماني في بغداد، وصالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية، فكيف أمكنها أن تغتال الشهيد إسماعيل هنية في قلب طهران؟
لكن هناك من سبق واغتالتهم إسرائيل، ومنهم محسن فخري زادة الذي كان يوصف بأبي البرنامج النووي الإيراني، وقد تم ذلك بالقرب من العاصمة طهران، وليس في قلبها، كما وقع مع عملية اغتيال الشيخ هنية، وفي الحقيقة فإن هذا يطلق سؤالاً كبيراً حول الحالة الأمنية الداخلية لإيران، وهي دولة تعتبرها إسرائيل عدوها الأول، وإسرائيل المعروفة بلجوئها لعمليات الاغتيال دائماً وعبر تاريخها _كما أشرنا أعلاه_ والمناسبة كانت تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، والشيخ اسماعيل هنية ضيف جاء لحضور هذه المناسبة، ومن الطبيعي ان يكون الأمن الإيراني مستنفراً، وقد اخذ كل احتياطاته، بما في ذلك احتمال إطلاق صاروخ موجه او طائرة مسيّرة، او أي شيء مما لدى إسرائيل من إمكانيات أمنية/عسكرية، من الطبيعي ان تكون إيران على دراية به، فكيف يحدث مثل هذا الاختراق الأمني للدولة الإيرانية؟
ثم أليس هذا عدواناً على إيران يستوجب الرد، وهو اخطر من اعتداء إسرائيل على المبنى الملحق بالقنصلية الإيرانية المجاور للسفارة الإيرانية في دمشق، والذي وقع في الأول من نيسان الماضي وأودى بحياة القائد في فيلق القدس محمد رضا زاهدي، حيث أصرت إيران على الرد، وفعلت بإطلاق مئات الصواريخ والمسيّرات من أرضها تجاه إسرائيل، بما دفع أميركا وبريطانيا للتدخل وإغلاق الأجواء بين إيران وإسرائيل بالقباب الحديدية والصواريخ التي اعترضت الصواريخ الإيرانية ومنعت معظمها من الوصول لإسرائيل، حتى لا تحدث نتائج يمكنها ان تشعل الحرب الإقليمية الشرق أوسطية.
واضح بأن إسرائيل تصر على جر الشرق الأوسط لحرب إقليمية، لتجبر أميركا على المشاركة فيها، وذلك ضد ايران، فهل يعني إصرار إسرائيل، أن الحرب ستقع اليوم أو غداً، ومن يدري، إن كان الأمر سيقتصر على إسرائيل وأميركا من جهة وإيران ومحورها من الجهة الثانية، أم أن دولاً أخرى مثل تركيا وغيرها ستجد نفسها داخل أتون تلك الحرب .
وزير خارجية إيران يكشف تفاصيل آخر لقاء جمعه ببشار الأسد
18 ديسمبر 2024