بالتأكيد، لدى الفلسطينيين مصلحة في وقف هذه الحرب المجنونة التي دخلت شهرها الحادي عشر، ارتكبت خلالها دولة الاحتلال وحلفاؤها مجازر يَندى لها جبين الإنسانية، وأحدثت دماراً هائلاً، أطاح بقدرة الناس على التحمُّل.
سيقول البعض من باب الاستنكار: فإذاً لماذا كان "طوفان الأقصى"، طالما أنّ التهدئة ستؤدّي إلى العودة إلى ما كان قبلها مع كلّ هذه الآلام التي يعاني منها الشعب الفلسطيني؟
الجواب، هو صحيح أنّ الفلسطينيين تكبّدوا معاناة هائلة لا قِبَلَ لشعبٍ آخر على تحمّلها إلّا الشعب الفلسطيني، ولكن هل صحيح أنّ ما بعد توقف الحرب كما قبل 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي؟
لقد اتضح خلال الأشهر الأحد عشر، أنّ الشعب الفلسطيني يتحلّى بأصالة الالتزام بكلّ القيم الإنسانية، سواء في التعامل مع الأسرى، أو في التعامل مع المدنيين الإسرائيليين.
في المقابل، سقطت دولة الاحتلال وحلفاؤها، في امتحان القيم الإنسانية، حين أظهرت مدى التطرُّف في ارتكاب كل ما يعاكس ويطيح بهذه القيم التي ظلت تدعيها وتسوّقها للعالم.
وسقطت، أيضاً، كلّ الأهداف التي أرادتها وحلفاؤها، سواء ما يتعلّق بحسم الصراع، وشطب القضية الفلسطينية، أو ما يتعلّق بمخططاتهم بشأن إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وفق ما تقتضيه مصالحهم وإستراتيجياتهم.
بدأ "الطوفان" من غزّة، الصغيرة، المحاصرة، لكنها إن كانت في الشرق الأوسط، فإنّها حرب على الشرق الأوسط كلّه، من بدا له أنّه متعاون وحليف للولايات المتحدة، أو من كان في حالة عداء معها.
وفوق هذا، يترتّب على هؤلاء الشّامتين، واليائسين، والمتصيّدين في الماء العكر، أن يمرُّوا ولو بسرعة على ما تتكبّده الدولة العبرية وحلفاؤها من أثمان باهظة. لا تبحثوا كثيراً، فقط تابعوا ما يصدر عن مسؤولين وخبراء وجنرالات وكُتّاب إسرائيليين.
ولمناسبة المحادثات التي تنعقد، اليوم، في قطر بحضور أميركي مصري قطري، وربما إسرائيلي، واعتبرها الوسطاء الفرصة الأخيرة فإن المشكلة لا تقع عند الجانب الفلسطيني الذي له مصلحة في توقُّف الحرب الدموية، وإنّما عند الجانب الإسرائيلي.
إن توقّفت الحرب، فإنّ الفلسطينيين سيستعيدون بناء حياتهم بعد إعادة صياغة ومكانة قضيتهم، التي ملأت الدنيا كما لم يحصل من قبل، حتى أصبحت على أجندة الشعوب والحكومات بما في ذلك وأساساً الدول التي وقفت وتقف مع دولة الاحتلال.
ولكن إذا أوقفت الحرب، واضطرّت دولة الإجرام الإسرائيلي لسحب قواتها من قطاع غزة فإن هذه ستكون نهاية بنيامين نتنياهو، وقيادة وجناة الحرب، وانهيار ائتلافه الحكومي، وخضوع كلّ هؤلاء للمحاكمات الدولية، والداخلية.
هكذا تُحسب الأمور والتوقعات، وهكذا تُحسب المواقف بناءً على المصالح، ولذلك، فإنّ نتنياهو سيبحث عن كل طريقة وأيّ طريقة لمنع التوصل إلى اتفاق.
أشهر طويلة انقضت على البدء بهذه المفاوضات، مارست خلالها دولة الاحتلال، وحلفاؤها ضغوطاً عسكرية هائلة وارتكبت آلاف المجازر، ودمّرت ما تبقّى من البُنى التحتية، بأمل أن تصرخ المقاومة الفلسطينية، وتقدّم التنازلات التي يرضى عنها نتنياهو، والتي تمكّنه من مواصلة حربه العدوانية، لكن هذا لم يحصل، ولا تظهر مؤشّرات على أنّ ذلك يمكن أن يحصل.
يجري الحديث عن عدد قليل من القضايا الخلافية، ولكن إمكانية معالجتها بحلول وسط تبدو مقفلة، فهي أمام أن يوافق هذا الطرف أو ذاك على رؤية الطرف الآخر، وإمّا أنّ السّاقية ستظلّ تدور من دون مياه.
في هذه الجولة التي تتحدث الإدارة الأميركية العاجزة عن أنها الأخيرة صعّدت دولة الاحتلال من ضغوطها العسكرية، فارتكبت مجازر في مدارس الإيواء، وقامت باغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية، وحشدت الولايات المتحدة وحلفاؤها "الغربيون" أساطيل وقوّات وطائرات وأجهزة دفاع جوّي، وقوّات هجومية، تقول الإدارة الأميركية، إنّها دفاعاً عن قواتها، ولدعم دفاع الدولة العبرية عن نفسها وكل ذلك بهدف التفاوض تحت النار والتهديد، وإرغام المقاومة على قبول الشروط الأميركية الإسرائيلية، ومنع إيران من مهاجمة دولة الاحتلال وتوسيع دائرة الحرب.
خلال هذه الأيام بثّت الإدارة الأميركية جملة من التوقعات المتفائلة، وشغّلت قطاراً من المبعوثين الكبار، وأوحت وكأنّ إيران ترغب في إرسال وفد إلى قطر لمراقبة المفاوضات، وبأنّ إيران مستعدة للتخلّي عن عزمها الردّ على دولة الاحتلال في حال تم التوصل إلى اتفاق التبادل.
وخلال هذه الأيام القليلة، يبدو أن الإدارة الأميركية وقفت على شروط متشدّدة من نتنياهو، بما قد يؤدّي إلى إفشال المفاوضات، ولذلك يعلن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن أنّه سيؤجّل زيارته للدولة العبرية والمنطقة.
في الواقع، كان قد نشب خلاف علني بين وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت ونتنياهو الذي اتهمه بالمسؤولية عن إفشال محاولات التوصل إلى اتفاق.
الإدارة الأميركية تعلم أكثر من غيرها، أنّ نتنياهو هو المسؤول عن تعطيل كلّ المحاولات السابقة، والحالية لإبرام صفقة تبادل تؤدّي إلى وقف الحرب، ولكنها لا تعلن ذلك، وتُلقي بالمسؤولية كلّ الوقت على حركة حماس.
في الواقع إن كان هذا هو موقف وسلوك الوسيط، فأيّ وسيط هذا، الذي يقف بالباع والذراع علناً وسرّاً إلى جانب دولة الاحتلال؟
في الموقف الأوّل من المفاوضات، أعلنت "حماس" أنّها لن ترسل وفدها للتفاوض وتطالب باختصار الوقت، ووضع آلية تنفيذ للإطار الذي طرحه جو بايدن وحظي بدعم مجلس الأمن ووافقت عليه.
وفي مقابل التشويهات الأميركية للموقف الإيراني، أكد مصدر في "الحرس الثوري" أمس، أنّ بلاده لم تستجب للضغوط من أجل منع الرد، وأنّها تستعد لجولة طويلة الأمد، وأنّها أبلغت قطر بأنّ "قاعدة العديد" العسكرية الجوية، وجميع القواعد الأميركية في المنطقة ستكون أهدافاً مشروعة في حال التدخّل.
التهديد مقابل التهديد، وقد أحسنت إيران و"حزب الله"، بتأجيل الردّ على الدولة العبرية، حتى يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من المفاوضات، حتى لا يكونوا سبباً في إفشال المفاوضات، الأمر الذي أفشل محاولات نتنياهو استغلال الردّ، لكي يتحمّل غيره المسؤولية عن هدفه ورغبته في فشل هذه الفرصة الأخيرة.