مَن خذل مَن؟

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة


 

وين العرب؟ وين المجتمع الدولي؟ ربما من أكثر الأسئلة تداولاً في كل ما يتصل بمأساة غزة. فكلما التقطت الكاميرا نازحاً أو منكوباً في غزة سيتساءل بمرارة: أين العرب؟ وسيلقي باللوم على الصمت العالمي، وعلى تآمر الدول الغربية، وتواطؤ الأنظمة العربية، وخذلان الشعوب العربية والإسلامية وتقاعسها عن نصرة غزة.
كل ما سبق مفهوم ومبرر، خاصة أنه صادر عن أناس بسطاء مظلومين ومكلومين ويتعرضون لأبشع عملية إبادة، أناس من عامة الشعب يلومون أشقاءهم وإخوتهم وأصحاب الضمائر والإنسانية، ويعاتبونهم على قلة حيلتهم وعجزهم، أو على صمتهم وسلبيتهم. وأي إنسان يتعرض لمثل هذه المحنة المأساوية من الطبيعي أن يقول هذا الكلام، وأن يعاتب، ويصرخ ويستنجد ويغضب ويشتم.
فإذا كان ما تقدم مقبولاً ومستوعباً ومبرراً على المستوى الشعبي، فهل هو كذلك على مستوى النخب والمثقفين والمحللين، وقبل ذلك والأهم عند المخططين؟ لنحاول تفكيك تلك المقولات وإرجاعها إلى أصلها ومستواها الأول.
الخذلان يحصل عندما يتوقع شخصٌ ما موقفاً معيّناً من أخٍ أو صديق أو جهة معروفة لديه، ثم يأتي الموقف معاكساً أو أقل من المطلوب بكثير.. فتتولد حينها مشاعر الخيبة، فإذا أُصبت بإعياء مثلاً ولم تجد والدك بجوارك يأخذك إلى الطبيب ويشتري لك الدواء، هنا ستُصاب بخيبة الأمل وستشعر بالخذلان، أما إذا تغيب جارك البعيد فهذا شيء عادي لأنك لم تتوقع منه الحضور والمواساة أصلاً.
لقد تربى الشعب الفلسطيني على ثقافة التضامن العربي، وأن العرب إخوة، والمسلمون أمة واحدة، وأن هذه الشعوب ستهبّ لنجدة أي طرف يمر بمحنة أو يتعرض لعدوان، ولكن هذه الفرضية غير موجودة إلا في أذهاننا، وليس لها ترجمة على أرض الواقع على مدى فترات تاريخية طويلة، وإذا حصلت بضعة مرات سابقاً فلها أسبابها وسياقاتها الخاصة.
في واقع الأمر فكرة الأمة العربية الواحدة مجرد تصور ذهني.. ليس العرب وحدهم، بل أي مجموعة عرقية أو ثقافية أو سياسية هم في الحقيقة مجرد عوالم متخيلة تجمعهم تصورات معينة عن أنفسهم، وتصهرهم حالة افتراضية نسجتها ثقافتهم الخاصة. وربما يجمع العرب عموماً العديد من الروابط والصلات والوشائج التي تقرب هذه الحالة الافتراضية أكثر من غيرها إلى الواقع، وأقصد الروابط الموضوعية المادية كاللغة والتاريخ والثقافة والدين والمصير المشترك، ولكن حتى هذه الروابط ليست حقيقية تماماً، ويعتريها الكثير من النواقص والضبابية، أو أنها غير حاضرة ولا جاهزة كما نتخيل ونفترض.
فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للعرب، فإن المسألة تغدو أعقد وأصعب وأكثر تخيلاً وأبعد عن الواقع حينما نتحدث عن الأمة الإسلامية. فالسياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لكل مجموعة سكانية تبلورت بمفردها، وبمعزل عن غيرها خارج حدودها السياسية - وهذه التمايز تعمق أكثر مع مرور الوقت - وتباعُد العوامل الموضوعية المؤثرة على كل مجموعة سكانية، إلى أن اقتصر الأمر عند بقاء مشاعر التضامن والتعاطف بين كل تلك الشعوب.. بمعنى أنها فقط مجرد مشاعر إنسانية ووجدانية قد يغلفها الدين، أو الإنسانية أو النزعات القومية، لكنها تبقى مشاعر وأحاسيس.
وهذه المشاعر لا تُترجم على أرض الواقع إلا على شكل هبّات وفزعات موسمية وعاطفية، لافتقارها الإطار المؤسسي الناظم، ولأنها لا تمتلك آليات العمل والتفكير والتخطيط المشترك، ووحدة المصالح الآنية والملحّة. وبما أنها مجرد هبّات وفزعات، فلن تكون سوى ظاهرة صوتية، خاصة إذا تعارضت تلك المشاعر مع المصالح القومية العليا لتلك الشعوب.
وللتوضيح، لو سألت أي مواطن عربي أو مسلم (نستثني الحزبيين وأصحاب الأيديولوجيات) هل تريد حرباً على إسرائيل بكل ما ستحمله من ويلات وكوارث ودمار، أم حلاً ما يجنبك الحرب، وربما يكون على حساب الفلسطينيين (الذين يتضامن معهم عاطفياً ومقتنع بمظلوميتهم)؟ على الأرجح سيختار أي حل يجنبه الحرب والدمار والموت. وهذه سمة فطرية إنسانية وليست ذماً ولا انتقاداً.
والموضوع ليس فقط تجنّب الحرب، بل حتى تجنّب تقديم تضحيات أقل من ذلك بكثير، أي تضحيات تتجاوز النقر على الكيبورد، أو مشاركة صور ومقاطع فيديو، أو كتابة وترديد هتافات وشعارات وجمل إنشائية، أو الدعاء، أو مقاطعة شركات مشهورة، ربما تصل التضحية في أقصاها إلى المشاركة في تظاهرات غاضبة والصراخ بأعلى الصوت. وصدقاً هنا لا أقلل من شأن وقيمة وأهمية تلك الأفعال والتضحيات مهما بدت بسيطة، والموضوع ليس مزايدة، ولا ينبغي أن يكون كذلك.. الموضوع أن هذه الشعوب مكبلة، ومقيدة، ومقموعة، ومحرومة، ومضروبة في كرامتها، وفاقدة لحريتها.. وليس بوسعها فعل ما هو أكثر من ذلك. باختصار تلك الشعوب تعيش ظرفاً موضوعياً غاية في الصعوبة والتعقيد، وتمر في مرحلة تاريخية انتقالية، وحتى تنضج وتتمكن من فعل شيء حقيقي وتاريخي ستحتاج زمناً طويلاً، ويتوجب عليها استيفاء العديد من الشروط.
لو أدركنا جميعاً هذه الحقائق لوفرنا على أنفسنا كل هذه الحروب الكلامية والعنف اللفظي والمزايدات وتبادل الاتهامات.. وكل هذا العتاب وتحميل المسؤولية للطرف الآخر، وحملات التخوين والتكفير.
إذا كانت مشاعر الخذلان قد تولدت بناء على رهان مبني على افتراض خاطئ (والحديث عن الشعوب العربية والإسلامية)، فإن هذا الخطأ يكون مضاعفاً وفاحشاً إذا كانت مشاعر الخذلان من الأنظمة الرسمية، لأنها افتراضات مبنية على فهم مغلوط ومشوّه ومنقوص لطبيعة تلك الأنظمة وتركيبتها وارتباطاتها وأدوارها الوظيفية، وعلاقاتها الوثيقة بالمشروع الاستعماري.
في المرة القادمة عندما تضع خطة للتحرير، أرجوك لا تكرر الخطأ نفسه، ولا تعد إنتاج المأساة.. لا تراهن على الأنظمة الرسمية، ولا على الحكومات، ولا على الجيوش النظامية، ولا على النخب والأحزاب والإعلام، ولا حتى على الجماهير المغلوبة على أمرها.
راهن فقط على قدراتك الذاتية، وعلى توحّد شعبك، وعلى حسن التخطيط.
وحينما تتحرر الشعوب العربية من سلطات الاستبداد والقهر، ومن ثقافتها الرجعية والطائفية، ستكون معك وفي مقدمة الصفوف دون أي حاجة لاستدعائها. ولن تأتي حينها على شكل فزعات، بل ستأتي بالشكل الحضاري القادر على دحر المشروع الإمبريالي الصهيوني.