على الرغم من كل الجهود «الإسرائيلية» التي تحاول صرف أنظار العالم كله، وفي المقدمة منه العالم العربي، بعيداً عن أصل الصراع في إقليم الشرق الأوسط أي الاحتلال «الإسرائيلي» للأراضي العربية والقضية الفلسطينية، والدفع بصراع آخر بديل ليحظى بالأولوية هو الصراع المذهبي، وعلى الرغم من كل جهود الترويج لخطر الإرهاب التكفيري «إرهاب داعش والقاعدة»، لم يستطع «الإسرائيليون» إخفاء انزعاجهم من الحراك الأوروبي الذي تقوده فرنسا ووزير خارجيتها لوران فابيوس لعقد مؤتمر دولي للسلام لحل الصراع «الإسرائيلي الفلسطيني»، وفي حال إخفاق هذا المؤتمر، فإن باريس ستسارع للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
الانزعاج «الإسرائيلي» من هذا الاقتراح الفرنسي له أسباب ومبررات كثيرة على العكس من اقتراحات أخرى مشابهة وخاصة اقتراح على النمط ذاته سبق أن قدمه أيضاً لوران فابيوس قبل سنتين ورفضته «إسرائيل» وأحبطته الولايات المتحدة تحت وهم، تحرص واشنطن على تسويقه دائماً منذ ما قبل مفاوضات أوسلو عام 1993، وهو «إعطاء الأولوية للتفاوض المباشر الإسرائيلي الفلسطيني».
من باب الأسباب والدوافع التي تبرر الانزعاج «الإسرائيلي» والتي لا يتابعها بكل أسف الرأي العام العربي ولا الإعلام العربي الذي يبدو أنه أسقط عن كاهله هموم القضية الفلسطينية باعتبارها باتت «قضية معوقة» لحل ما هو جديد من صراعات وأزمات عربية أولى بالاهتمام، يمكن تحديد أربعة أسباب لها أولوية بارزة عند «الإسرائيليين».
السبب الأول، أن المبادرة الفرنسية تأتي متوافقة مع سياق عام جديد للتعامل الأوروبي يربط بين احتمال فشل هذا المؤتمر أو إفشاله بعزم فرنسا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية «وتجيء أيضاً منسجمة مع مزاج عام متوافق معها من جانب الاتحاد الأوروبي والذي يرجح أنه سيدعمها وربما يحذون حذوها إذا فشل هذا المؤتمر».
فقد بادر الاتحاد الأوروبي بتفجير أزمة مع «إسرائيل» عندما قرر وسم بضائع «المستعمرات الإسرائيلية» وتمييزها عن بقية البضائع «الإسرائيلية» ثم أعقب ذلك بإقرار قواعد ترفض التعامل مع أي مظهر «إسرائيلي» خارج حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967.
حاول «الإسرائيليون» بذل أقصى جهودهم لإفشال هذه المقاطعة الأوروبية باعتبار أوروبا الشريك التجاري الأهم للكيان الصهيوني، وكان تركيزهم الأكبر على تفنيد القرار الأوروبي باعتبار المستعمرات غير شرعية، وكان دوري غولد المدير العام لوزارة الخارجية على رأس من قادوا الهجوم «الإسرائيلي» المعتاد بالترويج لمزاعم مفادها أن مستعمرات الضفة الغربية شرعية تماماً حتى لو لم يقبل بذلك كثيرون في المجتمع الدولي. ففي مقابلة مع صحيفة «ماكور ريشون» (522016) أكد جولد أنه يدعم خطوة تسيبي حوتوبلي نائب وزير الخارجية «الإسرائيلي» في جهودها ل «شرعنة المستعمرات» بل و«شرعنة» ضم «إسرائيل» للضفة الغربية كلها باعتبار أنها لم تكن واقعة تحت سيادة أي دولة عندما احتلتها «إسرائيل» عام 1967. وكانت تسيبي حوتوبلي قد أوعزت إلى السفارات «الإسرائيلية» بضرورة العمل دولياً على الإيضاح بأن المستعمرات قانونية.
السبب الثاني، هو ذلك التعاطف الأمريكي مع الموقف الأوروبي، أو على الأقل عدم التصدي الأمريكي للموقف الأوروبي، وإعلان موقف أمريكي معارض للسياسة «الإسرائيلية» في الأراضي المحتلة وعلى لسان السفير الأمريكي في تل أبيب «دان شابيرو» وأمام مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب. فقد تحدث شابيرو عن ازدواجية المعايير «الإسرائيلية» في كل ما يتعلق بفرض القانون في الأراضي المحتلة والتمييز في ذلك بين اليهود والفلسطينيين.
أما السبب الثالث، فهو تزامن كل هذه التطورات مع ما ورد على لسان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في خطاب له أمام مجلس الأمن الدولي (2712016) من انتقادات لسياسة الاستيطان «الإسرائيلية» ورفضه للبناء في تلك المستوطنات، لكن ما هو أخطر بالنسبة للفهم «الإسرائيلي» هو قوله إنه «من طبيعة الإنسان مقاومة الاحتلال» في معرض حديثه عن هبة الشباب الفلسطيني ضد الاحتلال في الضفة الغربية. اعتبر «الإسرائيليون» ذلك بأن «الأمم المتحدة تمنح الإرهابيين (الشباب الفلسطيني) الشرعية للقتل»، ووصل تجاوز الرد في الصحافة «الإسرائيلية» إلى درجة وصف هذا القول ب«الوقاحة» التي تمادوا في أنها، أي «الوقاحة» أضحت «من أهم معالم الأمم المتحدة»، وأن ما ورد على لسان الأمين العام هو «تجاوز للخطوط الحمر في التصرف تجاه دولة عضو، وانتهاك فظ للعرف الدبلوماسي».
هذه الردود الانفعالية ضد الأمين العام ترجع إلى ما بات يعتبره «الإسرائيليون» ب«عاصفة رفض دولية» ضد «إسرائيل» في وقت يجب أن ينشغل فيه العالم وخاصة أوروبا ب «الإرهاب الإسلامي» الذي بات «خطراً أوروبياً».
هنا بالتحديد يبرز السبب الرابع للانزعاج «الإسرائيلي» من الاقتراح الفرنسي بعقد مؤتمر دولي لحل الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني، وهو أن مجمل تلك التطورات جاءت في الاتجاه المعاكس الذي اشتغل «الإسرائيليون» عليه على مدى السنوات الماضية، وهو اختلاق «العدو البديل» في محاولة للتأكيد أمام العالم كله أن «إسرائيل» ليست السبب الأهم للتوتر وللصراع المتفجر في الشرق الأوسط، وأن أسباب ذلك الصراع كامنة في داخل الدول العربية نفسها وبين هذه الدول وبعضها.
الصدمة «الإسرائيلية» كانت هائلة من هذا التطور ومن هنا جاءت مخاطبة بنيامين نتنياهو للاتحاد الأوروبي ومن على منبر مؤتمر دافوس في سويسرا الشهر الماضي بالتعامل مع «إسرائيل» بالطريقة التي تعاملها بها بعض الدول العربية والتي وصفها بأنها «أفضل من تلك التي تتلقاها من أوروبا».
ما أراد نتنياهو قوله هو إن الدول العربية قد انصرفت عن التزاماتها نحو القضية الفلسطينية، والتي لم تعد شرطاً لتأسيس علاقات بين هذه الدول و«إسرائيل» ومن ثم يجب «ألا تكون أوروبا ملكية أكثر من الملك» أو «لا تكون عروبية أكثر من العرب»، ولذلك خاطب الإعلام «الإسرائيلي» الاتحاد الأوروبي بالقول إن «على الأوروبيين، والفرنسيين تحديداً، أن يدركوا أن القضية الفلسطينية قد تراجعت وباتت في أدنى سلم أولويات الدول العربية»، وأن «على باريس أن تدرك هذه الحقيقة قبل أن تطلق تهديدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية».
المحزن في هذا كله أن الصمت العربي السياسي والإعلامي كان السمة البارزة في التعامل مع هذه التفاعلات الأوروبية «الإسرائيلية»، وأن الحديث الأوروبي لمقاطعة البضائع «الإسرائيلية» حتى ولو كانت بضائع المستعمرات، ليس له أي صدى عربي مع نوازع التطبيع التي أخذت تستشري من جانب دول عربية عديدة مع الكيان الصهيوني، بل والتجاوب مع دعوة «العدو البديل» والآخذ بمقولة «عدو عدوي صديقي» لتبرير فرص واحتمالات التقارب مع «إسرائيل»، في تطور ينبئ بافتقاد العرب «مناعة الدفاع عن النفس».
عن الخليج الاماراتية