لا جدال في حق «حماس» (وكل الشعب الفلسطيني) بمقاومة الاحتلال، وأنه طالما هنالك احتلال ستكون مقاومة.. الموضوع يتعلق بالتكتيكات الميدانية وتقدير الموقف واختيار التوقيت والأسلوب الأمثل، وحجم الضربة، والتصرف الصحيح، وهكذا.
فحماس، وإن كانت هي السباقة بالهجوم، إلا أن ذلك الهجوم لم يأتِ من فراغ، ولا يمثل بداية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما يحاول الإعلام الإسرائيلي والأميركي تصويره، وكأنه برق في سماء صافية، مع تجاهل تام لسبعة عقود من الصراع سبقت السابع من أكتوبر، تخللتها مئات جولات الصراع الدامي، كانت إسرائيل هي البادئة دوماً، بصفتها قوة احتلال، ولأنها كانت دوماً تهاجم وتقصف وتقتل وتجتاح وتعتقل وتدمر.. وكان الطرف الفلسطيني في حالة الدفاع عن النفس.. وهذا يعني أن الطوفان مجرد جولة حامية سبقتها جولات عديدة، وستتبعها جولات أخرى، طالما أن الصراع لم ينتهِ، والقضية الفلسطينية لم تُحل.
بداية ينبغي فهم عملية حماس على أنها رد فلسطيني ضد الاحتلال، وهو رد متوقع ومشروع حصل نتيجة الضغط الهائل والظلم الكبير لذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً، ونتيجة ممارسات احتلالية إجرامية بلغت حداً لا يُحتمل، ونتيجة سياسات إسرائيلية متغطرسة ومتعنتة لا ترى الفلسطينيين، وتتجاهل معاناتهم وآلامهم، وتتعامل معهم وكأنهم مجرد «حيوانات بشرية».
عند الحديث عن أي حرب، يتم استعراض الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية لطرفي الحرب، وماذا يريد كل طرف تحقيقه.. وتاريخياً، تبدأ الحروب بالطريقة التي يريدها المخططون والمنفذون، بيد أنها لا تنتهي، في كل الأحوال، بالطريقة والنتائج التي توقّعوها.
ولكن عند الحديث عن هذه الحرب، الأمر مختلف.. فالطرف الفلسطيني لم يضع أهدافاً محددة لخوض الحرب، باعتبار أن الهدف العام واضح وقديم ومتجدد، وهو التحرر من الاحتلال، وفي هذه الحالة يمكن استعراض جملة من العوامل الضاغطة التي دفعت بحماس لبدء هجومها، ومع فهم هذه العوامل يصح القول إن تغييرها هو الهدف المركزي لخوضها الحرب.
وتلك العوامل الضاغطة وصلت حداً لم يعد بالإمكان تحمله فدفعت به نحو الانفجار، بعد استعصاء عدد من الملفات والقضايا الحساسة في الساحة الفلسطينية، وهي كما أشار إليها خطاب محمد الضيف؛ استباحة المسجد الأقصى وتكرار اقتحاماته من قبل المستوطنين، وتكرار الاجتياحات في الضفة الغربية، واستمرار حالات الاعتقال والاغتيالات وهدم البيوت، وتوسعة الاستيطان، وتعديات المستوطنين، واستمرار الحصار الخانق والظالم لقطاع غزة، دون بارقة أمل بإنهائه، واتباع إسرائيل سياسة جعل القطاع على حافة الحياة، والإبقاء عليه ضعيفاً، ما فاقم كل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والحياتية لدى سكان غزة. وأخيراً استعصاء ملف الأسرى.
مع انسداد الأفق السياسي تماماً، ومرور الحالة الفلسطينية بمرحلة من الركود والتراجع، دون أي فعل مؤثر، فلا هي حالة حرب أو انتفاضة، ولا هي مرحلة مفاوضات وعملية سياسية، ولا هي حالة سلام وهدوء وأمن، وفوق ذلك هناك تجاهل إسرائيلي ودولي للقضية الفلسطينية، ومحاولات للقفز عنها وتجاوزها، والاستعاضة عنها بمشروع السلام الإبراهيمي والتطبيع.
وكانت فكرة اجتياح مستوطنات غلاف غزة موجودة في ذهن حماس منذ سنوات، وقد طرحتها علناً في تسجيلات منشورة، ولكن لم يأخذها الإسرائيليون على محمل الجد.. ما كانت تحتاجه حماس اختيار التوقيت.. ومن الواضح أن الجناح العسكري (القسام) أخذ القرار بمفرده وحسم خياره، وفرض الأمر على التيار المركزي داخل الحركة، الذي لم يجد أمامه إلا تأييده ومباركته.
خلاصة القول، إن حالة اللاحرب واللاسلم التي سادت الساحة الفلسطينية نحو عقدين من الزمان، لم تعد قابلة للاستمرار، خاصة أن إسرائيل تواصل فرض الحقائق على الأرض، وتواصل توسعها الاستيطاني ومشروع التهويد، وتواصل جرائمها بحق الفلسطينيين، من قتل واعتقال وهدم وحصار، وإغلاق محكم لأي أفق سياسي، مع تعنت وغطرسة وتجاهل كامل للقضية الفلسطينية، وتنكر لحقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم المشروعة..
وهذا السكون لا يمكن له أن يستمر طويلاً.. ولا بد من كسره وتغييره، والتغيير المفترض سيأتي من جهات ثلاث: إما من السلطة (وحركة فتح)، وإما من الجماهير نفسها، وإما من حماس.
كان واضحاً أن سياسات السلطة لم تحقق منجزات مرضية ومقنعة للفلسطينيين، فقد تعثر مشروع السلام، وتوقفت المفاوضات، وظلت السلطة تراهن على حلول سياسية ووعود أميركية، وتجنبت أي تصعيد عسكري في الضفة الغربية، واستعاضت عنه بالمقاومة الشعبية، والتي لم تتخذ خطوات جدية لتطويرها وتوسعتها وتصعيدها، وهذا بسبب رؤية سياسية معينة لدى القيادة، ونتيجة ترهل وتكلس في بنى وهياكل ومؤسسات السلطة وفتح وسائر الفصائل، ولأسباب أخرى.
أما حماس، فقد وصلت إلى درجة ضاغطة حتّمت عليها اتخاذ الخطوة، وملء الفراغ، فالطبيعة لا تقبل الفراغ، وكان متوقعاً من حماس أن تسده.
في الفعل السياسي، وكما يزودنا التاريخ بالأمثلة، كان دوماً هناك من يبادر، ومن يملأ الفراغ في حالات تأخر المبادرة.. فتح بادرت بالخطوة الأولى والأهم في ستينيات القرن الماضي حين فجرت الثورة، وبادرت بعد ذلك مرات عديدة، وظلت متصدرة لمشهد الكفاح الوطني وفي طليعته ومقدمته طوال عقود.
الجماهير بادرت في إطلاق انتفاضتين شعبيتين كبيرتين، والعديد من الانتفاضات المصغرة، وكانت مبادرتها تأتي كل مرة بعد اكتمال ونضوج جملة من العوامل والظروف الذاتية والموضوعية، وبالطبع، تأتي مبادرتها تلقائية وعفوية، ثم تنتظم بعد ذلك.
في ظل الظروف السياسية التي أشرنا إليها، وقد تبين لنا حتمية وضرورة تغييرها، والحاجة الملحة لمن يبادر ويتخذ القرار ويفجّر الموقف.. السلطة شبه عاجزة، والجماهير غير جاهزة لاتخاذ مثل قرار كهذا، نظراً لعدم اكتمال ونضوح ظروف خلق حالة توجب القرار، فالجماهير بحسها ووعيها الوطني تتخذ قرارها دائماً بصورة ارتجالية وعفوية، وقد تستمر وتواصل، وقد تتوقف وتنكفئ.. وهذا ما زاد من سعة الفراغ السياسي.
ومن الطبيعي أنَّ من سيتخذ القرار لا بد أن تكون جهة منظمة، ولديها قيادة قادرة على اتخاذ قرار مصيري بهذا المستوى.. وهذا ما فعلته حماس.
ولكن؛ إذا اتفقنا على المبررات، هل كانت مبادرة حماس بالشكل الأمثل؟ من حيث الأسلوب والاستعدادات وقراءة المشهد السياسي؟ هل كانت مراهناتها وتحالفاتها صحيحة؟ هل كانت خطوة مدروسة، أم مغامرة متهورة؟ ومن الذي دفع الثمن؟
مع أن النتائج تعطينا إجابات واضحة، ولكن هذه الأسئلة مهمة وسنناقشها في مقالات لاحقة.