إذا لاحظنا نقاط الاتفاق في التصوّر العملي الذي خرج به «لقاء الدوحة» نجد أنه تكرار لما جاء في «إعلان الشاطئ» حول الانتخابات، والمجلس التشريعي وكيفية عقده، وعقد لجنة تفعيل المنظمة (دون استخدام الإطار القيادي المؤقت هذه المرة)، بينما تتعلق نقاط الخلاف بمسألة مشاركة «حماس» في اجتماع المجلس الوطني بصيغته القديمة، ورواتب الموظفين التي أحيلت إلى اللجنة الإدارية القانونية المنصوص عليها في «اتفاق القاهرة»، والتي شكلت بُعيد تشكيل حكومة الوفاق إلا أنها لم تحل المشكلة.
أما الجديد الذي حمله لقاء الدوحة مقارنة مع «إعلان الشاطئ»، فهو أن الحكومة التي ستشكل هذه المرة ستكون حكومة وحدة وطنية، أي سيشارك فيها ممثلو الفصائل وبعض المستقلين، حتى تكون قوية وقادرة على حل التحديات الجسيمة، وهذه الصيغة تم تجريبها بعد «اتفاق مكة» وفشلت.
هناك أمران فيما يتعلق بحكومة الوحدة، أولهما أن تمثيل الفصائل فيها على أعلى مستوى من دون حصول تقدم في ملف إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، لن يؤدي فقط إلى فشل الحكومة على غرار حكومة الوفاق الوطني، بل وربما يجعلها المرجعية الوحيدة، بحيث قد تصل الأمور إذا فشلت كما هو متوقع إلى العودة إلى حكومتين واقتتال جديد، خصوصًا إذا عاد موظفو أجهزة السلطة المستنكفون للعمل مع استمرار وجود الأجهزة التي تحكم القطاع حاليًا والخاضعة كليًا لسيطرة «حماس» (لاحظوا توقيت ومغزى الحديث عن تقدم المفاوضات التركية الإسرائيلية حول ميناء غزة).
أما ثانيهما، فيتعلق بعدم مشاركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في الحكومة استمرارًا لموقفهما السابق الرافض للمشاركة بأي حكومة تحت سقف «اتفاق أوسلو». وهذه المقاطعة نقطة سلبية، لأن الفصيلين مهمّان، ولا تكتمل حكومة الوحدة من دونهما، والأهم أن سبب عدم مشاركتهما هو أن الحكومة القادمة ستكون تحت سقف «اتفاق أوسلو»، وهذه طامة كبرى، إذ يأتي ذلك بعد أن قال الجميع تقريبًا في «أوسلو» والتزاماته «ما لم يقله مالك بالخمر»، لدرجة أن الرئيس قال إنه لن يلتزم بالتزاماته بعد الآن، لأن إسرائيل لم تعد ملتزمة بها منذ فترة طويلة، وإلى حد اتخاذ المجلس المركزي منذ حوالي عام قرارات بتغيير العلاقة مع إسرائيل، والتعامل معها كاحتلال وليس كشريك في السلام، إلا أن هذه القرارات لم تنفذ، ولا يبدو أنها ستنفذ بعد إعلان استمرار التنسيق الأمني والتفاخر بذلك.
«هنا الوردة فلنرقص هنا» كما يقال، فإذا لم يتم الاتفاق حول كيفية التعامل مع «أوسلو» والتزاماته يكون اتفاق «الدوحة 2» - هذا إذا وصلنا إليه - عملية إعادة إنتاج للسلطة كما هي، سلطة حكم ذاتي مرتهنة للاحتلال وللالتزامات المجحفة وللمساعدات.
تأسيسًا على ما سبق، لا يكفي ما جاء في تفاهمات الدوحة بأن برنامج الحكومة القادمة سيعتمد على الاتفاقات السابقة و»وثيقة الوفاق الوطني» أولًا، لأن هذه الوثيقة على أهميتها تحمل بعض عباراتها تفسيرات عدة، ولتجاوزها نقاطًا مهمة، مثل الموقف الواضح من الالتزامات وشروط اللجنة الرباعية، وهذا الأمر إضافة إلى الملف الأمني أدّيا إلى فرط حكومة الوحدة الوطنية التي شُكّلت بعد «اتفاق مكة». كما جرت بعد الوثيقة تطورات كبيرة لا بدّ من اتخاذ موقف مشترك منها، مثل:
- الحصول على العضويّة المراقبة للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وهل سيستمر التعامل بعدها بالنسبة للسلطة وكأنّ شيئًا لم يحصل، أم أنّ هناك ترتيبات سياسية وقانونية لا بد من العمل على أساسها؟
- الانضمام إلى المؤسسات والمحاكم الدولية وتفعيلها في سياق تدويل الصراع.
- الموجة الانتفاضية التي اندلعت بداية تشرين الأول وما زالت مستمرة، وهي بحاجة إلى اتخاذ موقف مشترك يعمل على توفير قيادة وأهداف محددة لها، وتوفير مقومات استمرارها وشموليتها، على أساس أن المقاومة والمقاطعة والانتفاضة الشاملة هي طريق دحر الاحتلال، والتفاوض إذا كان لا بد منه يأتي بعد ذلك.
- جاءت وثيقة الوفاق عشية محاولة جديدة لاستئناف المفاوضات، لذا أعطت الشرعية للمفاوضات عبر تفويض الرئيس بإجرائها، أما الآن فنحن في مرحلة تغيّر فيها الموقف باتجاه ضرورة إغلاق باب العودة إليها كما كانت. وفي هذا السياق، لا بد من الاتفاق على كيفية التعامل مع التحرّكات السياسية الرامية إلى استئناف المفاوضات، وخصوصًا «المبادرة الفرنسية»، لأنها بالرغم مما تضمنته من بعض الإيجابيات إلا أنّ هدفها الأساسي توفير منصة لاستئناف المفاوضات الثنائية، ولكن هذه المرة برعاية دولية شكلية موسعة عن اللجنة الرباعية الدولية، من خلال ضم دول عربية لتوظيفها في الضغط على الفلسطينيين، ما سيساعد على إجراء مفاوضات إقليمية وحل إقليمي طالما دعا إليه نتنياهو وأركان حكومته.
- التطورات العربية والإقليمية، وهذه نقطة لا يمكن تجاهلها، إذ يجب العمل على تصحيح العلاقات الفلسطينية – العربية، والابتعاد عن المحاور والتدخل في الشؤون الداخلية العربية، فلا للمشاركة في محور ضد الاٍرهاب لا يكون الاٍرهاب الإسرائيلي في مركزه، ولا وحدة وطنية قابلة للاستدامة من دون إقامة مسافة ما بين «حماس» وجماعة «الإخوان المسلمين».
لا أقول أن تكفّ «حماس»عن كون مرجعيتها الفكرية «إخوان مسلمين»، بل تغليب كونها جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية على كونها امتدادًا أو فرعًا لجماعة «الإخوان المسلمين»، وهذا ممكن، ولنأخذ ما فعلته حركة النهضة التونسية بهذا الخصوص نموذجًا، وما فعلته «حماس» نفسها بعد تأسيسها، عندما كان مركز قيادتها في دمشق، وكان أوثق حلفائها نظام حافظ الأسد الذي كان يخوض حربًا دموية مع جماعة «الإخوان المسلمين» السورية.
ما سبق يوضح للمرة المليون أنه من دون الاتفاق على إستراتيجية سياسية نضالية لا يمكن أن تقوم وحدة. إستراتيجية تستند إلى القواسم المشتركة، وتتصدى للتحديات والمخاطر التي تهدد القضية والأرض والشعب بمختلف مكوناته وفصائله وأفراده، وتكون قادرة على توظيف الفرص، وهي قائمة وكامنة بانتظار من يستطيع أن يلتقطها. وفي هذا المجال، خذوا من وقفة الجزائر مع فلسطين مصدر إلهام، فأن تقف الجزائر وقفة واحدة مع منتخب فلسطين ضد منتخبها الذي تعتز به، فهذه ليست رياضة وإنما سياسة تدل على معنى أن الشعب الفلسطيني يناضل من أجل قضية عادلة، وعلى عمق القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية.
بعد ذلك، جاء في تفاهمات الدوحة الاتفاق على إجراء انتخابات بعد ستة أشهر من دون توضيح إذا ما كانت الانتخابات ستعيد سلطة الحكم الذاتي، أم انتخابات دولة، وإذا كانت الانتخابات الأولى لن توافق عليها إسرائيل إلا إذا قبضت ثمنًا وكانت جزءًا من عملية سياسية تستفيد منها أكثر مما استفادت من الانتخابات السابقة، حينما منحت الانتخابات الأولى الشرعية لسلطة «أوسلو»، بينما جددت الانتخابات الثانية هذه الشرعية.
وإذا كانت الانتخابات للدولة وجزءًا من اعتماد مقاربة جديدة، فستكون أداة من أدوات الصراع لإزالة الاحتلال، وهذا يعني أنها ستحتاج إلى وقت حتى يتم فرضها على الاحتلال. وفي هذه الحالة، ستجرى عشية أو غداة قيام الدولة على الأرض، وهذا هدف ليس بقريب، وبحاجة إلى كفاح لتغيير موازين القوى، وجعل الاحتلال مكلفًا وليس مربحًا لإسرائيل.
ولم توضح التفاهمات هل ستجرى الانتخابات من دون اتفاق على إبطال تدخلات إسرائيل القادرة على التأثير بشدة على إجراء الانتخابات من عدمه، وعلى نتائجها، فكلنا نذكر كيف عطّلت إسرائيل المجلس التشريعي في العام 2006 عبر اعتقال عشرات النواب.
كما لم توضح هل ستجرى الانتخابات وفق الآلية التي تم الاتفاق عليها سابقًا في ظل بقاء الأجهزة الأمنية جزءًا من الاستقطاب الفصائلي (في غزة خاضعة كليًا لحماس، وفي الضفة خاضعة إلى حد كبير لفتح)، وفي هذه الحالة من يضمن حرية الانتخابات ونزاهتها واحترام نتائجها وعدم تزويرها؟!
إن الحديث عن إجراء الانتخابات من دون الاتفاق على متطلبات حريتها ونزاهتها واحترام نتائجها، ووضع ما يجعل التدخل الإسرائيلي في أضيق نطاق، وفي ضوء تعمق الانقسام أفقيًا وعموديًا، وغياب مؤسسات وطنية ومهنية موحدة، وفي ظل أجواء عدم الثقة وجماعات مصالح الانقسام، وعدم جاهزية الأطراف، خصوصًا «فتح» و»حماس» والرئيس لإجراء الانتخابات؛ كل هذه العوامل تعني أن الحديث عن إجراء الانتخابات ليس بندًا للتطبيق، وإنما لذر الرماد في العيون، لأن الشعب لم يعد قادرًا على تحمل استمرار تغييبه وعدم الاحتكام إليه، لا عن طريق الوفاق والحفاظ على حقوقه ومصالحه والاعتماد على شرعية المقاومة، ولا عن طريق صناديق الاقتراع، لذلك يتم تسكينه بالحديث عن انتخابات تارة بعد ثلاثة أشهر، وتارة أخرى بعد ستة، وثالثة بعد عام، وتمضي الأعوام بلا انتخابات ولا وحدة، أي بلا شرعية من أي نوع.
أخيرًا، سنكتفي بالإشارة إلى مسألة ضرورة الاتفاق على كيفية وتفاصيل دمج واستيعاب الموظفين وأفراد الأجهزة الأمنية والوزارات ضمن مؤسسات وأجهزة واحدة.
ما سبق كله يعني أن الحكومة القادمة ستعمل في حقل ألغام، وهذا يدل على أن المحاولة الجديدة لا تختلف عن سابقاتها، وبالتالي ستواجه نفس المصير، وأخشى أن ما حركتها أطراف إقليمية تريد أن تحرر نفسها من قيد رفع الحصار عن قطاع غزة حتى تكمل تصحيح علاقاتها مع إسرائيل، وتجهز الوضع الفلسطيني للمرحلة القادمة؛ مرحلة التسويات وتمكين الفلسطينيين من المشاركة فيها «موحدين». وبالتالي، يجدر بالفلسطينيين الاعتماد على أنفسهم أولًا وقبل كل شيء آخر، وحتى يتمكنوا من ذلك هم بحاجة إلى الوحدة، ولكن على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية.