لماذا يا خالد مشعل؟

تنزيل (5).jpeg
حجم الخط

بقلم ماجد كيالي 

 

 

 

 

 

 

لا تضيف أقوال خالد مشعل، الرئيس الأسبق للمكتب السياسي لـ"حماس"، جديدا، سوى تأكيد مسألتين، الأولى، ضعف صدقية تلك الحركة، المتمثلة في تصريحات قادتها، والوثائق الصادرة عنها، التي تقول شيئا ونقيضه، كأن ذلك يأتي حسب المزاج، أو الموجة، أو للاستهلاك الداخلي والخارجي. والثانية، افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية لاستراتيجية كفاحية واضحة وممكنة ومستدامة، رغم تجربتها الغنية والمكلفة والمريرة والطويلة.

وكان خالد مشعل قد دعا، مؤخرا، للعودة لانتهاج العمليات "الاستشهادية"، أو التفجيرية، والرد على الإسرائيليين، فهم "يقاتلوننا بصراع مفتوح"، لذا "نحن نواجههم بصراع مفتوح".

في الجانب الأول، من التصريح، يجدر التذكير بأن مشعل نفسه، كان أول من تجرأ، في قيادة "حماس"، وميّز بين مدني وعسكري في إسرائيل، وحتى بين مدنيي إسرائيل ومستوطني الضفة، وعدم استهداف المدنيين الإسرائيليين، في خروج عن مألوف الخطابات الحمساوية.

وللتذكير، فإن مشعل كان قد أثار الانتباه في اجتماع للمصالحة الفلسطينية، (القاهرة، 25/11/2011)، بحديثه عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال "بكل أشكال المقاومة"، وضمنها المقاومة الشعبية والمسلحة. وقوله: "وصلنا إلى الانتفاضة الأولى بفعل المقاومة الشعبية". وفي حينه اعتُبِر هذا الكلام تطورا جديدا في مواقف "حماس"، وإدراكاتها لتعقيدات الوضع الفلسطيني، ومحدودية قدراته في المجال العسكري. أيضا، ففي مقابلة أجرتها معه كريستيان أمانبور، من قناة "سي إن إن" (21/11/2012)، أكد مشعل أن: "المقاومة لا تستهدف المدنيين... أنا قائد (حماس) أقول عبر (سي إن إن) نحن على استعداد لسلوك سبل سلمية من دون سفك دماء أو استخدام أسلحة إذا حصلنا على مطالبنا الوطنية".

ولعل أوضح تعبير صدر عن خالد مشعل، في هذا الاتجاه، جاء إبان الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة (يوليو- أغسطس 2014)، بتأكيده على "التفوق الأخلاقي للمقاومة"، مضيفا: "شهداؤنا مدنيون وقتلاهم عسكريون". وأن "المقاومة لا تستهدف، ولم تستهدف يوما، المدنيين". بل إنه ذهب أبعد من ذلك بقوله: "لا تقولوا لي إن المستوطنين مدنيون. هؤلاء يقيمون على أرض غير مشروعة لهم وهم مسلحون ويقتلون ويخربون".

وحتى في مناخات الحرب الحالية، فقد أكد مشعل، كرئيس لـ"حماس" في الخارج، أنه "لا يوجد أي تعمد لقتل المدنيين خلال عملية طوفان الأقصى". (14/10/2023).

بيد أن المسألة لا تتوقف على ما قاله مشعل، أو غيره من قادة "حماس"، إذ شمل ذلك وثيقتين أصدرتهما تلك الحركة، الأولى صدرت (2017) في ظرف كانت فيه "حماس" تحاول تعزيز شرعيتها الكفاحية والسلطوية، بشرعية وطنية ودولية. أما الثانية (صدرت مطلع عام 2024)، وعنوانها: "هذه روايتنا… لماذا طوفان الأقصى؟"، فأتت في ظرف تحاول فيه "حماس" ترسيخ مكانتها كمقرر في الخيارات السياسية والكفاحية الفلسطينية، وصد مساعي عزلها، بناء على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، وكمرافعة في مواجهة اتهامها باستهداف مدنيين، سيما من قبل محكمتي العدل والجنائية الدوليتين.

وكان يلفت الانتباه في الوثيقة (الثانية) أن كلمتي "المدنيين الإسرائيليين"، تكررت 10 مرات، وأنها تضمنت توضيحات، ونقدا ذاتيا، لبعض سلوكيات جرت إبان عملية "طوفان الأقصى". أيضا، كان لافتا للانتباه أنها ابتعدت عن خطاب محمد الضيف (قائد كتائب عز الدين القسام)، الذي ألقاه يوم العملية (7/10/2023)، وجاء في متنه: "هذا يومكم لتفهموا هذا العدو المجرم أنه انتهى زمنه. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم...) قاتلوا، والملائكة سيقاتلون معكم… أشعلوا الأرض لهيبا تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلا وحرقا وتدميرا وإغلاقا للطرقات… يا إخواننا في المقاومة الإسلامية، في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا... وفي كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي، ابدأوا بالزحف اليوم، الآن... نحو فلسطين… كل من عنده بندقية فليُخرجها... من ليس عنده... فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته".

إضافة إلى شبهة صدقية وسلامة خيارات "حماس"، فإن تجربة العمليات التفجيرية في الانتفاضة الثانية لم تكن ناجحة، إذ وحدت الإسرائيليين بدل أن تعزز تناقضاتهم، وأظهرتهم كضحية، بعكس ما ظهر في الانتفاضة الأولى، ونجم عنها تآكل البعد الشعبي للانتفاضة الثانية لصالح عسكرتها، ما منح إسرائيل فرصة تنتظرها للبطش بأقصى طاقتها بالفلسطينيين. أيضا نجم عن ذلك بناء إسرائيل للجدار الفاصل وتشريع عشرات النقاط الاستيطانية وبناء الطرق والجسور الالتفافية التي قطعت أوصال الضفة، ووضعت الفلسطينيين في معازل متفرقة.

أما دعوة مشعل لحرب مفتوحة ضد إسرائيل، فتبدو كدعوة ممن يمتلك جيشا في مواجهة جيش إسرائيل، أو كدعوة من شخص لا يرى حقا ما يحصل، أو ما تفعله إسرائيل، في غزة والضفة. ولنلاحظ أن إسرائيل هي التي ترفض وقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على الفلسطينيين، سيما في غزة، باعتبارها فرصة سانحة لها، لإخضاعهم من النهر إلى البحر. أيضا، إسرائيل هي التي نقلت حربها إلى الضفة، مع غزة، وهي التي توحد "الساحات" بتوجيهها ضربات متعددة الأطراف، في إيران واليمن وسوريا ولبنان، في حين أن تلك الأطراف لا تفعل شيئا مناسبا لتقييد إسرائيل، أو إيلامها، أو للتخفيف عن نكبة الفلسطينيين.

مشكلة هكذا دعوات أنها تنم عن انفصام عن الواقع، وعن مبالغة في القدرات الذاتية، مضرة وخاطئة، كما تنم عن عدم إدراك لحقيقة أن إسرائيل هي بمثابة وضع دولي، وأن الصراع ضدها يحتاج إلى موازين قوى ومعطيات عربية ودولية مناسبة للفلسطينيين، لتمكينهم من استثمار تضحياتهم ومعاناتهم وبطولاتهم، أكثر مما يحتاج إلى الشعارات والروح القدرية.

غريب، بعد كل تلك التجارب الغنية والطويلة والمريرة والمكلفة، أن لا تدرك القيادات الفلسطينية كل ذلك، وأن الحرب هي المربع الذي تتوخى إسرائيل استدراج المقاومة إليه، كونه المربع الذي تتفوق فيه، ويخدم سياساتها، ويسهل لها البطش بالفلسطينيين. غريب، أيضا، أن لا تدرك تلك القيادات أن شغلتها ليست الحرب وإنما اختيار أشكال الكفاح المناسبة، بحسب الظروف، وضمنها المقاومة، طويلة الأمد والمتدرجة، التي تستنزف العدو، وتحيد قوته العاتية، ما أمكن، وليس استنزاف شعبها، ووضعه "في بوز المدفع"، بدل مراعاة قدرته على التحمل، وانتهاج سبل تمكنه من استثمار تضحياته وبطولاته، في ظروف دولية وعربية غير مواتية.

أما الحرب المفتوحة وعلى الوجود فهي ما تريده إسرائيل المتوحشة، في هذه الظروف.