كان محمد حسنين هيكل يصرّ على تقديم نفسه بصورة الصحافي. فهو «الجرنالجي» بحسبه وحسب لغة آبائنا الذين كانوا يستخدمون كلمة «الجرنال» الفرنسية بدل كلمة «الصحيفة» أو «الجريدة»العربيتين، اللتين شاعتا في أيامنا. وكلمة «جرنالجي» على الرغم من جذرها الفرنسي لها لاحقة تركية. فلاحقة «جي» ارتبطت بالكثير من الكلمات لأنها بحسب الأب رفائيل نخلة اليسوعي في كتابه: «غرائب اللهجة اللبنانية السورية» تدل على حرفة أو عادة، مثل كندرجي وجوهرجي وحلونجي وبوياجي وخضرجي وصابونجي…
هذا المزيج الفرنسي- التركي انتج كلمة «جرنالجي» التي حملت تناقضاً بين مكونيها. فالمكون الفرنسي حمل معاني القيم التي انتجتها الثورة الفرنسية، وسمح للصحافة بأن تشهد ولادة مصطلح المثقف بعد نص اميل زولا الشهير «اني اتهم»، اما المكوّن العثماني فحمل معنى العلاقة الاستتباعية بين السلطة والكاتب. وفي المكونين تناقضات داخلية كبرى، اذ استطاعت الرأسمالية استتباع اجزاء اساسية من حرية الاعلام الغربي، كما خاضت الصحافة العربية معارك طاحنة من أجل حريتها.
الأستاذ «الجرنالجي» كان في الوسط وسعى طوال حياته للمطابقة بين شقي مهنته. فهو حديث وتحديثي من جهة، وصديق السلطة والناطق باسمها من جهة ثانية. هذا لا يعني انه كان على وفاق دائم مع السلطة، فقد قادته معارضة السادات إلى السجن. لكنه حاول طوال حياته أن يكون لسان السلطة أو سلطتها الفكرية والثقافية، وتصرّف ليس بصفته صحافياً يبحث عن الاسرار بل بصفته حامل اسرار السلطة وأحد صنّاع لغتها.
عاش هيكل طوال حياته ظلاً مصنوعاً من حروف تجربة جمال عبدالناصر. ولأن التجربة الناصرية كانت مفترقاً ومحاولة لولوج زمن عربي جديد، فإن اقتراب هيكل وتماهيه مع ناصر، بدا في مرحلة تاريخية انجازاً. يومها لم تكن الحريات الديموقراطية ومن ضمنها حرية الصحافة أو الفكر هي الموضوع. نجح ناصر في وأد حرية الأفراد لأنه كان يحاول أن يصنع تاريخاً جديداً للأمة كلها. «ارفع راسك يا أخي»، قال الزعيم الأسمر وهو يقود الإصلاح الزراعي والتصنيع ويبني السد ويبشر بوحدة العرب.
منذ كرّاس «فلسفة الثورة» برزت بصمة هيكل على اللغة الناصرية. هل كتب هيكل الكرّاس ام كان مجرد مستكتب في خدمة الضباط الأحرار؟ أغلب الظن أنه كان الاثنين معاً، وكان في ذلك «المثقف» الأول الذي تبنى وروّج لفكرة البطل ودوره في التاريخ.
وكان المنجز الناصري الأكبر، الذي ساهم فيه هيكل، هو التأكيد على عروبة مصر ودورها القيادي في المشرق العربي الذي من دونه يفقد المشرق قياده وتفقد مصر نفسها.
ذكاء وألمعية وانفتاح فكري سمح له بأن يحوّل «الأهرام» إلى مجمع الخالدين في الثقافة المصرية. وقدرة على التأقلم والاستيعاب جعلته راعياً لمجلة «الطليعة» اليسارية، ولغة سلسة كلغة احسان عبد القدوس مطعّمة بثقافة انكلوساكسونية، وبشبق للسلطة والنفوذ والمال.
محورية نصوص هيكل وصلت إلى ذروتها في النص الذي كتبه كخطاب لجمال عبدالناصر بعد الهزيمة الحزيرانية. يومها انكشفت هشاشة اللغة الناصرية، واخترع هيكل الكذبة الكبرى التي صارت على كل شفة ولسان، ودخلنا في عصر «النكسة». تكفي مقارنة بسيطة بين كلمة «نكبة» التي صكّها المؤرخ الدمشقي قسطنطين زريق لتسمية هزيمة 1948، وبين عبارة «النكسة» لتشير إلى الفرق بين سلطة المثقف النابعة من الضمير والشعور بالمسؤولية بهدف الوصول إلى المعرفة، وبين مثقف السلطة الذي يغطّي الحقيقة ويجمّل الفشل ويزوّر التاريخ. وصف هيكل هزيمة العرب الكبرى التي لا تزال مصر والمنطقة تدفع أثمانها حتى يومنا هذا بالنكسة كي يغطي فساد الاستبداد وعجزه عن الدفاع عن أرض الوطن، بينما وقف قسطنطين زريق أمام منصة التاريخ معلناً نكبة العرب بتخلفهم وأنظمة حكمهم عن مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
لبّ المسألة هو أن هزيمة 1948 لم يكن من الممكن تلافيها نتيجة الواقعين العربي والدولي، أما هزيمة حزيران فهي مسؤولية النخبة العسكرية المصرية بقيادة الضباط الأحرار التي بدلاً من أن تبني جيشاً وطنياً قوياً ومهاباً، مثلما وعدت، بنت أجهزة مخابرات كانت مهمتها الاساسية كمّ الأفواه واخراج الناس من السياسة والشأن العام.
عبدالناصر التقط احد معاني الهزيمة، فقاد انقلاباً أطاح قيادة الجيش وعلى رأسها المشير عامر الذي «انتحر»، لكن ناصر مات قبل أن يحصد نتائج هذا الانقلاب، الذي سوف يطيح به الاستبداد والنظام الديكتاتوري على يد أنور السادات، الذي حوّل حرب تشرين/اكتوبر من نصف انتصار إلى هزيمة تاريخية أخرجت مصر من قيادة المنطقة.
مهندس عبارة «النكسة» لم يمض إلى الصمت بعد غياب ناصر وعدم اعتماده من قبل خليفتيه، لكنه قرر أن يتحول إلى مؤسسة للوثائق والمذكرات السياسية، وتابع اللعبة الوحيدة التي يتقنها، لعبة الكتابة بصفتها علاقات عامة تدور مع رجالات السلطة في كل مكان ممكن.
لكن رغم كل شيء فإن هيكل بقي ناصرياً حتى النهاية. لكن الناصرية بعد موت مؤسسها والانقلاب الساداتي عليها، تحولت إلى اطار لتأويلات شتى. بين التأويل العقلاني لالياس مرقص وياسين الحافظ والتأويل الساذج والهمجي للعقيد القذافي مسافة لا يمكن جسرها. اما تأويل هيكل فبقي عند نقطة البداية التي أدخل عليها الكثير من السفسطة الجيوسياسية، حتى تخال التاريخ مجرد خرائط يكتب عليها الضباط افكارهم التي لا تخلو من السذاجة في كثير من الأحيان.
ولعل اللحظة الضائعة التي رفض هيكل التقاطها هي لحظة 25 يناير الثورية، التي شكلت احتمال مصالحة مصر مع تاريخها، هنا سقط هيكل في التأويل العسكري للتاريخ، وراهن على الجيش.
أذكر أنني قمت مع مجموعة من الأصدقاء بزيارته خلال فترة حكم محمد مرسي، يومها فوجئت بثقة هيكل المطلقة بأن حكم الاخوان لن يدوم، قال انه لا يعطيهم أكثر من سنتين، وتحدث عن احتمال بروز ناصر جديد.
صدقت النبوءة بسقوط حكم الاخوان بأسرع مما توقع هيكل، اذ يبدو انها ارتكزت إلى معلومات صيغت على شكل نبوءة صحافي، أما الشق الثاني من النبوءة فلم يكن سوى مجرد امنيات تغطي وأد ثورة يناير بحنين وهمي إلى زمن قومي صارت الحرية والديموقراطية هما شرطه الضروري.
لن أتوقف عند آراء هيكل في الوضع السوري لأنها تشكّل فضيحة أخلاقية، فأنا أفضل أن اتناساها لأنها لا تستحق أكثر من ذلك.
الأساسي في سيرة الرجل سوف يبقى دوره في الزمن الناصري، وهو دور مثقف السلطة وكاتبها و«بارون» الأهرام، الذي كانت مقالاته الطويلة، تضفي على السلطة نكهة ثقافية متواضعة كانت كافية كي تعطيها نسقاً، إلى أن جاءت الهزيمة الحزيرانية المروعة فحولتها أشلاء لا تخبئ سوى «نكسات» متوالية.
الياس خوري