باغتيالك يا سيدنا، أدخلتنا ومعنا جماهير الأمة المتطلعة نحو تحرير فلسطين، مرحلة غمّ سوداء قاتمة سيدها الحزن والفجيعة، مجبولة بمشاعر الإنكار والرفض وعدم التصديق، لا نتمنى أبداً أن تطول، فالخسارة تتعدى اغتيال قائد عروبي عند المذبح إياه، مذبح فلسطين، بل قل عشتارة كنعانية، جرمقاً فلسطينياً، جبل شيخ سوري، هرماً مصرياً، دجلة عراقياً، أرزة بحجم لبنان. عوّدتنا أن تطل علينا على مدار عقود بكلام ليس كبقية الكلام، وخطاب ليس ككل الخطابات، وزعيم ليس كبقية الزعماء، تشحننا بطاقة إيجابية مذهلة، تخاطبنا حيث يجب أن تخاطبنا، من عقولنا، متجاوزاً الدين والطائفية والعنصرية، رغم عباءتك الواسعة ولحيتك الجليلة وعمامتك السوداء. ديدنك نصرة الفقراء والمظلومين، وبيت العنكبوت، ولهذا انتصرت لغزة منذ يومها الأول، حتى يومك الأخير من رمقك الأخير. وكأنما أردت لدمك الشريف أن يمتزج بدمها، ليصبح من المستحيل بعد ذلك ان ينجح أحد مهما أوتي من خبث الثعالب وخسّة المآرب أن يبطل أو يفسد هذا المزيج الطاهر لعشرات العقود القادمة.
لم نرك يا سيد المرحلة إنساناً عادياً حين تصنًّف كقائد أو زعيم مقارنة مع بقية زعمائنا، الحاليين والراحلين، كنت شبه موسوعة فكرية تاريخية دينية لغوية أخلاقية كفاحية، بمعنى آخر، كنا نراك حريصاً أن تهتم بعقلك وشؤون عدو الأمة، كأكثر من أي "خبير في الشؤون الإسرائيلية" التي تعج بهم الساحة. لكنك في الوقت نفسه، لم تكن نبياً ولا خارقاً أو "سوبرمان"، ولدت كما ولدنا، وأكلت مما أكلنا وتعلمت في مدرسة من مدارسنا وتزوجت كما تزوجنا وعشت ويلات الاحتلال كما عشنا وانتفضت عليه كما انتفضنا.. إلخ. وها أنت اليوم تمضي كما مضى المئات من الشهداء الذين استهدفهم الاحتلال. نسوق هذا لتخفيف وطأة فجيعتنا، وتقصير فترة سواد أيامنا من بعدك، على أن هذه الأمة قادرة على إنجاب المئات ليكملوا الطريق الذي مشيت، فكفّيت ووفّيت. في مثل هذا اليوم الذي فيه ارتحلت، قبل 54 سنة، فجعنا بارتحال زعيم عروبي آخر هو الخالد فينا جمال عبد الناصر، عشنا خلالها فراغاً طويلاً وخواءً مغثاً، حتى جئت يا سيد المقاومة، لكننا لا نريد لأجيالنا القادمة أن تنتظر خمسين سنة أخرى لمجيء سماحة سيد جديد.
بارتحالك الأبدي يا سيد روحنا، المتطلعة نحو التحرر والانعتاق، قد يتأخر "النصر" الذي وعدتنا به، لكن "السلام" مع هذا الاغتيال، أصبح في رابع المستحيلات.
**
(أسرجت خيلك في الجنوب لأجل عزك في الحياة / وعدوت فيها مشرّقا ومغرّبا.. فإليك تنتسب الجهات / أيقظتنا من نومنا، قد كاد يقتلنا السبات/ ووعدتنا .. وصدقت حين وعدتنا.. إذ قلت إن النصر آت ) الشاعر السوري عمر الفرا