يكاد العالم كلّه ينتظر الإجابة عن هذين السؤالين.
هذه الحرب تتدحرج سريعاً، وتقترب من منطقة الانزلاق نحو الحرب الشاملة، وتشتدّ وتيرتها، وتزداد أخطارها، ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها، وقد لا تقف الأمور على بقاء هذه الحرب في الإطار الشامل لتمتدّ وتتّسع حتى تتحوّل إلى حرب عالمية من نوع خاص، وقد تصل أنواع الأسلحة إلى مستويات التدمير الشامل بما فيها الأسلحة النووية.
الاقتراب المتسارع من منطقة الانزلاق قد لا يعني قصدية كاملة للوصول إلى هذه المنطقة، ولكنها قد تصل بالمقابل إلى نقطة اللاعودة منها وعنها، وذلك حسب طبيعة الأهداف التي ستصل إليها أسلحة هذه الحرب، وحسب أهمية هذه الأهداف بالنسبة لأطراف الصراع المباشرة، وحسب مدى العلاقة العضوية بين هذه الأهداف وبين مجمل معادلة التوازن في الإقليم، وفي العالم كلّه.
المفصل الأوّل من حيث درجة الخطورة، ونوعية الأسلحة، ومن حيث طبيعة الأهداف، ومن حيث درجة المراهنة على تحقيقها هو الردّ الإسرائيلي على إيران.
في هذا الإطار، «الحلول» الإسرائيلية لهذا الردّ تبدو حتى الآن غامضة، وهي تتراوح ما بين الردّ الكاسح، وبما يشتمل على استهداف المفاعلات النووية، وعلى المنشآت النفطية، وكافة المراكز الحيوية العسكرية، وصولاً إلى تدمير البنى التحتية الرئيسة، وما بين اقتصار الردّ الإسرائيلي على أهداف عسكرية، وليس في كل الأراضي الإيرانية، وإنّما في بعض المناطق المنتقاة.
وفي هذا الإطار، يجري الحديث عن مصانع الصواريخ والطائرات المُسيّرة، وعن معسكرات ضخمة تحوي الدفاعات الجوية الإستراتيجية بكلّ طبقاتها البعيدة المدى، والمتوسطة، وحتى المباشرة والقصيرة.
وبين هذه وتلك لا يمكن استبعاد الترافق ما بين هذه «الحلول»، والضربات «الأمنية» التي يبدو أنّ دولة الاحتلال ومن خلال «الشبكات الغربية» والأميركية تحديداً، ومن خلال مجهوداتها الخاصة قادرة على توظيفها وتفعيلها «بكفاءة» لا تقلّ عن الكفاءة التي شغلتها في «الرزمة القاتلة» ضد «حزب الله» في لبنان.
على هذا الصعيد، لا أمل لدولة الاحتلال بربح الحرب، لأنّ تغطية كل الأهداف التي تشتمل على «الردّ الكاسح» مستحيلة دون مشاركة واسعة من الولايات المتحدة في الهجوم، ودون مشاركة بعض دول «الغرب»، ودون مشاركة كل القوات الأميركية الموجودة في كامل منطقة الإقليم، ونحن هنا لا نتحدث عن النتائج المتوقعة، وإنّما عن مبدأ حدوث مثل هذا الهجوم.
ولا أمل لدولة الاحتلال من النجاة حتى لو استخدمت السلاح النووي، أو لنقل ليس لديها «ضمانة» بأنّ إيران لا تمتلك السلاح والقوة المكافئة.
الحلول الأخرى لا تعني حسم الحرب على الإطلاق، بل على العكس من ذلك فإنّ الردود والردود المقابلة هي حرب ستخسرها الدولة العبرية حتماً لأنّ تدمير «النفط الإيراني» سيتبعه بكلّ تأكيد تدمير منشآت نفطية فيها، وتدمير البنى سيقابله تدمير مقابل، وفارق المساحة الجغرافية، والقوى البشرية لا تستطيع أن تعوّضه ببعض التفوّق الجوّي أو بعض أنواع الأسلحة.
إذا نجحت العمليات الأمنية، وكانت القدرات الأميركية على المستوى الاستخباري عالية ودقيقة فإنّها قد تمكّن دولة الاحتلال من مثل هذا التعويض، وذلك حسب نسبة «النجاح» في هذه العمليات.
أمّا إذا كان الردّ الإسرائيلي أقلّ من كلّ هذه الحدود فإنّ ميزان الردع في الإقليم سيختلّ لصالح إيران، وبما يصل بهذا الميزان إلى مستوى التعادل على أقلّ تقدير.
عندما تصل الحرب إلى نقطة انعدام فرصة ربحها من قبل دولة الاحتلال، أو إلى انعدام فرصة هزيمة إيران، وبقاء قوة ردعها على مستويات تمنع دولة الاحتلال، ومن خلفها الولايات المتحدة من تهديد هذا الردع، وبصرف النظر عن مدّة الحرب وشدّتها فإنّ هذه الحرب ستتوقف لا محالة.
نحن ما زلنا نتحدّث عن الحرب بين دولة الاحتلال وإيران. أمّا على جبهة جنوب لبنان فقد بات واضحاً أن جيش الاحتلال يراوح منذ قرابة الأسبوعين دون أن يحقّق تقدماً يذكر، ويتكبّد خسائر فادحة في «قوات النخبة»، وربما تكون وصلت خسائره إلى أكثر من 700 بين قتيل وجريح، سواء على الشريط الحدودي، أو في المواقع والمعسكرات التي تتعرّض على مدار السّاعة للقصف الصّاروخي.
لا تستطيع القوات الإسرائيلية أن تنتظر أكثر كثيراً مما انتظرت حتى الآن، لأنّ قدرتها على الاختراق بدأت بالتآكل، ومعنويات القوى المقاتلة أصبحت تتراجع، وأسئلة أهداف الحرب التدميرية على لبنان ترتفع وتتعالى، وقد تحدث من التحوّلات في الواقع الجماهيري ما يهدّد ويبدّد كلّ «الإنجازات» التي باتت هي الرصيد الوحيد لهذه الحكومة.
إذا فشلت المحاولات الإسرائيلية في اختراقات كبيرة، أو إذا تمّ تعريض قوامها إلى الاستهداف المباشر، وعجزت عن حماية نفسها، وتمّ تدمير معدّاتها فلن يقبل الجيش استمرار التوغّل، وسيطلب من القيادة السياسية البحث عن شكلٍ من أشكال وقف إطلاق النار.
يمكن أن تستمرّ المحاولات عدّة أسابيع، ويمكن أن تصل بعض القوات الإسرائيلية إلى بعض المناطق في الجنوب، وقد تقوم بإنزالات كبيرة من البحر، وفي البقاع من أجل إحداث خلخلات في جنبات وخلفيات قوات الحزب، إلّا أنّ ذلك كلّه لن يحسم المعارك، لأنّ الاحتفاظ بالمواقع التي تطمح قوات العدوان بالثبات عليها، والتموضع فيها يحتاج إلى عدة شهور من المحاولات، وإلى قوى بشرية أكبر بكثير من العدد الذي تحشده دولة الاحتلال على الجبهة اللبنانية، بما يوازي خمس فرق وعدة ألوية خاصّة.
قوات الاحتياط في جيش الاحتلال لا تستطيع القتال ضدّ مقاتلي الحزب، وهي في أحسن الأحوال تساند في خلفية الجبهة، أو سيتمّ استخدامها في الضفة الغربية، وهي مجبرة على إسناد القوات النظامية على جبهة الجولان.
إذا تلازمت معارك جنوب لبنان المرتقبة مع الردود والردود المقابلة بين إيران والدولة العبرية، واستمرّ هذا التلازم لعدة أسابيع متواصلة، فإنّ دخول مقاتلين من المقاومة الإسلامية العراقية و»أنصار الله» الحوثيين اليمنية إلى جبهة الجولان يصبح مرجّحاً، ومشاركتهم، أيضاً، في البحرين «الأحمر»، والمتوسط» ستصبح مختلفة من حيث الكثافة ونوعية الأسلحة، وهو ما يعني، وسيعني أنّ «الضغط» على القوى البشرية في جيش الاحتلال سيصبح تهديداً داهماً بصورة كبيرة.
وحينها ليس أمام دولة الاحتلال سوى البحث عن وسيلة لإيقاف الحرب الدموية والتدميرية والإجرامية، والبحث عن شكل من أشكال وقف إطلاق النار.
أما في غزّة فإنّ الوضع بدأ يميل فعلياً لمصلحة الخطّة الإسرائيلية بتهجير سكّان شمال القطاع، بالرغم من المقاومة الشرسة التي تبديها الفصائل الفلسطينية.
أظنّ أنّ الاحتلال يهدف إلى حسم هذه المسألة قبل الذهاب إلى وقف حرب الإبادة، لأنّها ستكون إحدى أهمّ الأوراق التي بيد الاحتلال للمساومات السياسية في حينه، وإحدى أهمّ الصور التي سيقدّمها بنيامين نتنياهو للمجتمع الإسرائيلي بكونه استطاع أن يخرج منها وقد دمّر القطاع، واستطاع أن يقتطع منه كلّ منطقة الشمال للمساومة عليها.
لكنّ المحصّلة، بصرف النظر عن الخاصرة الرخوة في هذه الحرب والمتمثلة في معركة شمال القطاع حتى الآن هي أنّ دولة الاحتلال تكون فشلت في تحقيق الانتصار، وهزمت في صُلب أهدافها منها، ويكون الإقليم كلّه قد دخل في مرحلة التوازنات الجديدة التي ستفرز حتماً تسويات جديدة.